الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014

رموز مصرية : أبو العز الحريرى

عندما شرعتُ فى هذه السلسلة من المقالات نويتُ حسبما ذكرتُ في أولاهما، أن أجعلها إطلالاتٍ متواليةً على الشخصيات المصرية اللامعة،
 من حيث الجانب الإنسانى المنسى فى أيامنا هذه. عساها تصير نوافذ لرؤية هذه الشخصيات (الرموز) على نحوٍ أكثر نصوعاً وإسهاماً فى إثراء معرفتنا بهم، ومن ثمَّ استفادتنا منهم.. وكان المبتغى أن نعود القهقرى من أيامنا الحالية إلى بدايات النهضة الحضارية لمصر، ومن هنا كانت المقالات التى نُشرت على هذه الصفحة فى الأسابيع الماضية، عن: د. محمد يسرى سلامة، د. نصر حامد أبوزيد، د. حسن حنفي. ثم نتحدّث من بعدهم، عن الأسبق منهم زمناً: د. طه حسين، العلامة رفاعة الطهطاوى، الإمام أحمد الدمنهورى (شيخ الأزهر المتوفى قبيل مجئ الحملة الفرنسية على مصر والشام بقيادة نابليون بونابرت).
ولكن، بدا لى أن الكلام عن المعاصرين لنا، أجدى وأكثر فائدة. فرأيتُ أن استكمل المقالات بالكلام عمن عاصرتهم من الرموز المصرية ورأيت فى حيواتهم جوانب إنسانية مستترة، ودالة فى الوقت ذاته، متأسياً فى ذلك (من الأسوة) بما فعله ابن حجر العسقلانى فى كتابه الشهير، الذى يدل عنوانه البليغ على محتواه: إنباءُ الغُمر بأبناء العُمر.. ومن هنا، سيكون كلامنا التالى عن مناضلٍ مصرى عرفته عن قرب، ورأيتُ منه ما يستوجب الإظهار، على أمل أن تكون سيرته نبراساً نهتدى بضوئه، فى غمرة الظلام المحيط والإحباط المستولى على كثيرٍ منا، فى أيامنا الباهتة هذه.

سمعت اسم أبوالعز الحريرى أول مرة، حين كنتُ تلميذاً فى المرحلة الإعداية، وكنتُ كعادة الصبيان فى ذلك الزمان، ألتقى أقرانى والأصحاب فى الأمسيات. ليس فى (كافيه) لأن الكافيهات لم تكن بعد موجودة، وليس فى (مقهى) لأن المقاهى كانت لمن هم أكبر منا سناً، وليس فى (نادى) لأن المنطقة الشعبية السكندرية التى نشأتُ فيها، لم يكن بها أىُّ نوادٍ.. ولذلك كنا، كأمثالنا، نقف فى الأمسيات على النواصى وتقاطعات الشوارع!

وفى ليلةٍ رائقةٍ كنا واقفين على آخر ناصية بشارع راغب باشا الواقع عند التقاء الأحياء الثلاثة الشهيرة: محرم بك، غيط العنب، كرموز. لحظةَ مرَّ علينا اثنان من المخبرين (كان المخبر معروفاً بهيئة، البالطو، والبدانة، والمسدس البادى من تحت ملابسه) واقترب المخبران، وعلى غير العادة ابتسما وهما يقولان لنا. بالعامية طبعاً: شفتم ياولاد المصيبة، فيه واحد شيوعى اسمه أبو العز نازل انتخابات مجلس الشعب، والناس الطيبة موش عارفين إن الشيوعيين دول بينامو مع اخواتهم البنات بالليل، قولوا لأهاليكم الكلام ده علشان ياخدوا بالهم من الواد الشيوعى اللى عايز يترشح، هو اسمه أبوالعز الحريرى..

كان أبو العز الذى يعمل آنذاك بوظيفة متواضعة بشركة الغزل والنسيج، قد ترشَّح فعلاً ليكون نائباً للشعب فى البرلمان (عمال) فى الدائرة المرشح فيها رئيس الوزراء ممدوح سالم (فئات) وقد رأت الحكومة أيامها أنه شخص غير مرغوب فيه، لجرأته! أو بحسب التعبير الحكومى القديم: لجرأته على أسياده.. بينما كان أبو العز يرى أنهم فاسدون، وليسوا أسياداً إلا بالمعنى العفاريتى الواجبة مقاومته. وبعد مرور عدة أيام على الدعاية السوداء التى سمعتها من المخبرينِ، رأيتُ أبوالعز فى صلاة الجمعة بمسجد السمَّاك بغيط العنب يصلِّى مع الناس، ومعه شعار حملته الانتخابية: فوطة وقطعة صابون وشبشب (لزوم الاعتقال الوارد حدوثه فى أى لحظة).

وبعد مرور عدة أيام على صلاة الجمعة ، رأينا أبوالعز الحريرى واقفا بقامته الطويلة إلى جوارنا على الناصية، فى بداية المساء، وهو يبتسم قائلاً لنا ونحن الصغار: مساء الخير يا رجالة. فسألته من فورى، دون تريث: إنت عندك إخوات بنات! فابتسم ولم يرد، ولم يفهم بالطبع سرَّ هذا السؤال من صبىٍّ فى الرابعة عشرة من عمره.. وكان يقف معنا صبىٌّ من أقراننا، أعرج (اسمه: عادل الطبُّاخ) وكان قد هجر الدراسة لتوّه ليعمل فى مطعم أبيه.فسأله: إلا يا أبوالعز، إنت فعلاً شيوعى؟ رد عليه بلطف: لا ياحبيبى، أنا بس بدافع عن الفُقرا والمظلومين. والتهبتِ الحملة الانتخابية، فصارت شعواء شعثاء، حتى جاء يوم الإدلاء بالأصوات.

وعلى الطريقة السكندرية المعروفة بالمعارضة العتية، وقف الفقراءُ والمظلومون مع أبو العز فلم تستطع الحكومة فى عزّ أيام تزوير الانتخابات، أن تُسقطه أو تتلاعب فى الصناديق.. لماذا؟ لأن ثلاثة وعشرين ألف عامل وموظف فى شركة الغزل والنسيج، ذهبوا زُرافاتٍ وأعطوا أصواتهم الكاملة للمناضل الذى يعرفونه عن قرب.

صار أبوالعز فور إعلان النتيجة نائباً بالبرلمان، لكنه لم يفرح بلحظة فوزه، ولا فرح أحد.. ففى غمرة احتفاله بالفوز وسط الناس، دسَّ عليه (جزار) معروف فى المنطقة ومشهور بصلته الوثيقة بالحكومة، جماعةً من صبيانه المتشردين الذين هاجموا أبوالعز بسكاكين طويلة، وأرادوا ذبحه فلم يتيسَّر ذلك لهم. لكنهم يومها أصابوه فى وجهه بهذا الجرح الطولى الغائر، الباقى واضحاً حتى اليوم رغم مرور قرابة أربعين عاماً.. ولم يرتدع أبوالعز، وظل طيلة هذه السنوات الأربعين، مناضلاً سياسياً عتياً لا يهاب التهديد ولا يميل لمن أراد شراءه، مكتفيا برزقه المحدود من مكتبة يديرها هو وزوجته، بشارع الترام بمنطقة محرم بك.

وبعد مرور سنواتٍ طوالٍ جمعتنى الصداقةُ مع أبوالعز أو بالأحرى جمع بيننا الهمُّ العام، والانتماء لمنطقةٍ سكندريةٍ واحدة.. ولما اندلعت فى بداية التسعينيات حوادثُ الإرهاب المتأسلم ضد المسيحيين فى عموم النواحى المصرية، فكادت تقع الفتن التى لا آخر لها. قمنا بتشكيل لجنة الوحدة الوطنية وكان معنا نخبة من الشخصيات السكندرية اللامعة، المعروفة بالنزعة الوطنية. كان منهم: د.محمد رفيق خليل، د. هشام صادق، المستشار وليم فلتاؤس، د. كميل صديق، أحمد رفيق الغريانى.. ثم انضم إلينا من القاهرة: د.ميلاد حنا، أسامة أنور عكاشة، أحمد حمروش. وقامت اللجنة أيامها بما لا حصر له من فعاليات جماهيرية وأنشطة تنويرية (لقاءات مع الناس فى الأحياء الشعبية، محاضرات عامة، لافتات بعرض الشوارع الرئيسة بالإسكندرية، موائد إفطار رمضانى تجمع المسلمين والمسيحيين، زيارات للكنائس فى المناسبات.. وغير ذلك) وبطبيعة الحال، وحسب المعتاد فى بلادنا،لم تدعم الحكومة آنذاك أى عمل من أعمال اللجنة. ولم نكن ننتظر دعماً حكومياً، أصلاً، وإنما كُنا نقوم بتمويل هذه الفعاليات من حُرِّ مالنا، وكنا نُعانى الأمرّين فى الحصول على الموافقات الأمنية على إقامة الفعاليات. وكان أبوالعز حسبما كنا نسميه آنذاك هو دينامو هذه اللجنة، مع أنه أيامها كان مُبعداً من عضوية مجلس الشعب، لكنه كان يحب أن يدعو نفسه ويدعوه الناس بصفة: نائب الشعب. وكثيرا ما توالت مضايقات أصحاب الشعب ومالكيه، لنائب الشعب، ومع ذلك لم يكن أبوالعز يشكو مما يتعرَّض له، وكان دوماً يبتسم فى وجه الناس..

قطعٌ لازمٌ: ما كدتُ انتهى من كتابة العبارة السابقة، يوم الأربعاء الماضى، حتى اتصل بى أحدُ الأحبة ليبلغنى بوفاة أبوالعز الحريرى فى مستشفاه.. رحمه الله.. فلنستكمل الكلام عنه فى مقالة الأربعاء المقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق