فور انتهائى من كتابة المقالة الأخيرة من السلسلة السباعية السابقة التى نُشرت هنا تحت عنوان "منظومة القيم المصرية" نويتُ أن أُلحقها بمقالةٍ ثامنةٍ عن (الخجل) كى تكون متمِّمة للكلام عن القيم، ومنظومتها التى يجب أن تكون متكاملة ومتناغمة فيما بينها. مع أن الخجل ليس قيمةً فى ذاته، وإنما هو "فضيلة" مهمة، ومن المهمّ أن نعتنى بها فى إطار سعينا لإقامة بناءٍ مجتمعى على أُسس سليمة.
لكننى صرفت النظر عن الكتابة فى ذلك، لسببين. الأول منهما توقُّعى أن كثيرين من التافهين قد يسخرون من الكلام عن الخجل، لأنهم استسلموا للتسطيح الإعلامى والمعلوماتى فما عادوا اليوم يخجلون. والسبب الآخر، أن رجل الأعمال "المثقف" صلاح دياب، كان قد هاتفنى عقب انتهائى من مقالتى السابقة وسألنى عَرَضاً عن "رفاعة الطهطاوى" فأفضتُ فى الكلام عن الجانب الإنسانى من حياته. ولأن محدِّثى مستمعٌ جيد، فقد تابع ما أقوله بحرصٍ بالغ ثم ختم المكالمة بقوله إن هذا الكلام عن الطهطاوى ليس موجوداً فى الكتب، وعليك أن تكتبه. قلتُ: هذه فكرة تستحق الاهتمام.
ومن هنا، فإن هذه المقالات السبع التى نبدأها اليوم، سوف تلقى الضوء على سبع شخصيات (رموز) مصرية سطعت خلال المائتى سنة الأخيرة، وسيكون الكلام عنها قائماً على "الجانب الإنسانى" من هذه الشخصيات التى اخترتُ منها سبع (كان من الممكن أن يكونوا سبعين) هم بحسب الترتيب التاريخى لحيواتهم: أحمد الدمنهورى، رفاعة الطهطاوى، طه حسين، عبدالرحمن بدوى، حسن حنفى، نصر حامد ابو زيد، محمد يسرى سلامة. وسأبدأ الآن بالأخير منهم زمناً، ثم أعود القهقرى تدريجياً.
فى منتصف التسعينيات، طلب منى أستاذى وصديقى د. يسرى سلامة (أستاذ اللغة العربية) أن أجلس ساعةً مع ابنه الوحيد "محمد" الطالب فى المرحلة الثانوية، فتعجبتُ من الطلب واستفهمتُ عن سببه، فقال رحمه الله إن ابنه "غاوى تراث قديم" ويتمنى مجالستى. كنتُ أيامها منهمكاً فى مشروعى التراثى (الانتحارى) الذى استغرق أكثر من عشرة أعوام: تحقيق كتاب الشامل فى الصناعة الطبية "ثلاثون جزءاً". ومع ذلك، أردتُ أن أرى هذا الشاب الصغير: غاوى التراث القديم!
عصراً، زارنى بمنزلى هذا الشاب اليافع البديع "محمد يسرى سلامة" وامتد لقاؤنا ساعات مفعمة بالعمق، وبالبهجة التى أثارها فى نفسى هذا "الولد" النابه، غزير المعرفة، عميق الفهم. يومها لفت نظرى إعجابه الخاص بشيخ الإسلام، تقى الدين بن تيمية، ولفت نظره أننى أقدِّر هذا الرجل وجهاده واجتهاده، وأتفهَّم موقفه المشهور من بعض المتصوفة مع أننى محدودبٌ على التراث الروحى للصوفية. ولما أخبرنى محمد يسرى سلامة بأنه شرع بالفعل فى تحقيق بعض مؤلفات ابن تيمية لنشرها على أفضل صورة، قلتُ له أترك ذلك الآن وانته من "الثانوية العامة" أولاً، ثم سيأتى من بعد ذلك زمانُك الذى لن أراه. هكذا قلتُ، فالتقط الإشارة وابتسم فصارت له ملامح طفل.
كان الزمان يسخر، كعادته، منى ومنه. فقد شاءت الأيامُ أن أرى ابتداء زمانه، وانتهاءه، على عكس ما كنتُ أتوقّع. فقد مرّت عشرُ سنين، خلالها توفى الأب "د. يسرى سلامة" وانقطعت عنى أخبار ابنه، حتى أتى ذاك اليوم الذى جاءتنى الشاعرة السكندرية المعروفة، عزيزة كاطو (أم محمد يسرى سلامة) لتخبرنى بأن ابنها الذى صار "طبيب أسنان" يريد أن يعمل معى فى مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية (أيامها كان هناك مركز مخطوطات، وكانت هناك مكتبة الإسكندرية).
فى اليوم التالى جاءنى "محمد يسرى سلامة" فوجدته قد استطال وأطال لحيته، فاشترطتُ عليه إزالة لحيته ليعمل معى، فامتعض وقال إنها "سُنة" فقلتُ له لو كان النبى قد انفرد بإطلاق لحيته لصحّ كونها سُنة واجبة الاتباع، لكن هذه كانت سمة ذاك العصر الجامعة بين المؤمنين والكفَّار. قال: هى اليوم تميِّز المسلمين! قلتُ: هى تميِّز السلفيين عن المسلمين فكأنهم ليسوا منهم، وهى تجعلك شبيهاً بكارل ماركس! قال: امهلنى لأفكر فى الأمر. قلتُ: أمامك حتى صباح الغد. (كنتُ أريد أن أختبر صدق رغبته فى العمل، وأخشى عليه من المضايقات الأمنية فى وقتٍ كانت فيه المكتبة تلفت أنظار الجميع فى الداخل والخارج).
فى اليوم التالى، جاء "د. محمد يسرى سلامة" حليق اللحية مشرقَ القسمات، فامتدت بيننا سنوات طوال مليئة بالمحبة والمعرفة والعمل التراثى الجاد، العميق. ثم اندلعت ثورة يناير، فانقلبت الأحوالُ كلها وتسارعت على نحوٍ ما كان أحدٌ يتوقّعه، فكان من ذلك ما يلى: هجر محمد يسرى سلامة البحث التراثى، ورابط فى اعتصامات الثائرين وخرج فى مقدمة المتظاهرين، وترك العمل فى المخطوط الذى كلَّفته بتحقيقه "كتاب شاناق فى السموم والترياق" وانهمك فى معارضته العلنية العارمة للمدير العام للمكتبة، باعتباره رمزاً من رموز الفساد (مات محمد يسرى سلامة، فجأةً، وبقى المديرُ مديراً إلى اليوم). وجرت بيننا وقائع كثيرة بالغة الخصوصية، لن أستطيع أن أذكرها هنا كلها، لكنها فى المجمل تؤكِّد ما رأيته فى "محمد يسرى سلامة" خلال السنوات الطوال التى عملنا فيها معاً.
كان شخصاً نقياً بعمق، مندفعاً ببراءة، عالماً متعمقاً فى الفقه واللغة ويكاد يبرز فى مجال تاريخ الطب، محبا للحياة والنساء، تعيسٌا فى العشق وفى السياسة، عظيم التقدير لشخصية أستاذه العلامة د. محمد إسماعيل المقدم، وصديقاً فى الوقت ذاته للإعلامى باسم يوسف! وافر الذكاء والمقدرة على التقاط الإشارات. أما أشهر الصفات التى رأيتها فيه، فهى كونه ضحوكاً. وهذا ما لمسته طيلة السنوات التى عمل فيها تحت إدارتى بمكتبة الإسكندرية، وكان يقول دوماً: بعد وقت العمل الرسمى، أنت لست المدير، أنت مثل أبى أو "علشان" متزعلش "أخويا" الكبير. يقول ذلك باسماً ثم يضحك.
وكان يوم جاء للعمل معى، متزوّجاً من زوجته الأولى التى كانت قد أنجبت من زواجٍ سابقٍ، ولدين، كان يضع صورتهما أمامه على المكتب. ولما ثارت بينهما المشكلات التى تثور بين المتزوّجين، أصلحتُ الأمر بينهما مرةً لكن الأحوال احتدمت مجدداً وأطل شبحُ الطلاق، فكان يعانى من التياعٍ عميق. ليس بسبب انقطاع العشرة مع زوجته، فحسب، وإنما حسبما قال لى يومها قبل أن تنهمر دموعه حارةً: الولدان أحبهما وكنتُ أتمنّى أن أكون أباً لهما بقية العمر. رحم الله محمد يسرى سلامة، الذى اختطفه الموت، وله من زوجته الأخرى (التى كانت زميلةً لنا، وتركت المكتبة عقب وفاته) طفلين أحداهما رضيع.
يكفى هذا الكلام، اليوم، وفى مقالة الاسبوع القادم سأحكى بعض اللمحات (الإنسانية) الأخرى فى حياة محمد يسرى سلامة، السلفى الضحوك، وأشيرُ من بعيد إلى نهايته الغريبة. المفاجئة. التى وقعت قبل عامٍ، فى خضم الاضطراب العام الذى كان يسود البلاد ويعصف بالعباد.
لكننى صرفت النظر عن الكتابة فى ذلك، لسببين. الأول منهما توقُّعى أن كثيرين من التافهين قد يسخرون من الكلام عن الخجل، لأنهم استسلموا للتسطيح الإعلامى والمعلوماتى فما عادوا اليوم يخجلون. والسبب الآخر، أن رجل الأعمال "المثقف" صلاح دياب، كان قد هاتفنى عقب انتهائى من مقالتى السابقة وسألنى عَرَضاً عن "رفاعة الطهطاوى" فأفضتُ فى الكلام عن الجانب الإنسانى من حياته. ولأن محدِّثى مستمعٌ جيد، فقد تابع ما أقوله بحرصٍ بالغ ثم ختم المكالمة بقوله إن هذا الكلام عن الطهطاوى ليس موجوداً فى الكتب، وعليك أن تكتبه. قلتُ: هذه فكرة تستحق الاهتمام.
ومن هنا، فإن هذه المقالات السبع التى نبدأها اليوم، سوف تلقى الضوء على سبع شخصيات (رموز) مصرية سطعت خلال المائتى سنة الأخيرة، وسيكون الكلام عنها قائماً على "الجانب الإنسانى" من هذه الشخصيات التى اخترتُ منها سبع (كان من الممكن أن يكونوا سبعين) هم بحسب الترتيب التاريخى لحيواتهم: أحمد الدمنهورى، رفاعة الطهطاوى، طه حسين، عبدالرحمن بدوى، حسن حنفى، نصر حامد ابو زيد، محمد يسرى سلامة. وسأبدأ الآن بالأخير منهم زمناً، ثم أعود القهقرى تدريجياً.
فى منتصف التسعينيات، طلب منى أستاذى وصديقى د. يسرى سلامة (أستاذ اللغة العربية) أن أجلس ساعةً مع ابنه الوحيد "محمد" الطالب فى المرحلة الثانوية، فتعجبتُ من الطلب واستفهمتُ عن سببه، فقال رحمه الله إن ابنه "غاوى تراث قديم" ويتمنى مجالستى. كنتُ أيامها منهمكاً فى مشروعى التراثى (الانتحارى) الذى استغرق أكثر من عشرة أعوام: تحقيق كتاب الشامل فى الصناعة الطبية "ثلاثون جزءاً". ومع ذلك، أردتُ أن أرى هذا الشاب الصغير: غاوى التراث القديم!
عصراً، زارنى بمنزلى هذا الشاب اليافع البديع "محمد يسرى سلامة" وامتد لقاؤنا ساعات مفعمة بالعمق، وبالبهجة التى أثارها فى نفسى هذا "الولد" النابه، غزير المعرفة، عميق الفهم. يومها لفت نظرى إعجابه الخاص بشيخ الإسلام، تقى الدين بن تيمية، ولفت نظره أننى أقدِّر هذا الرجل وجهاده واجتهاده، وأتفهَّم موقفه المشهور من بعض المتصوفة مع أننى محدودبٌ على التراث الروحى للصوفية. ولما أخبرنى محمد يسرى سلامة بأنه شرع بالفعل فى تحقيق بعض مؤلفات ابن تيمية لنشرها على أفضل صورة، قلتُ له أترك ذلك الآن وانته من "الثانوية العامة" أولاً، ثم سيأتى من بعد ذلك زمانُك الذى لن أراه. هكذا قلتُ، فالتقط الإشارة وابتسم فصارت له ملامح طفل.
كان الزمان يسخر، كعادته، منى ومنه. فقد شاءت الأيامُ أن أرى ابتداء زمانه، وانتهاءه، على عكس ما كنتُ أتوقّع. فقد مرّت عشرُ سنين، خلالها توفى الأب "د. يسرى سلامة" وانقطعت عنى أخبار ابنه، حتى أتى ذاك اليوم الذى جاءتنى الشاعرة السكندرية المعروفة، عزيزة كاطو (أم محمد يسرى سلامة) لتخبرنى بأن ابنها الذى صار "طبيب أسنان" يريد أن يعمل معى فى مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية (أيامها كان هناك مركز مخطوطات، وكانت هناك مكتبة الإسكندرية).
فى اليوم التالى جاءنى "محمد يسرى سلامة" فوجدته قد استطال وأطال لحيته، فاشترطتُ عليه إزالة لحيته ليعمل معى، فامتعض وقال إنها "سُنة" فقلتُ له لو كان النبى قد انفرد بإطلاق لحيته لصحّ كونها سُنة واجبة الاتباع، لكن هذه كانت سمة ذاك العصر الجامعة بين المؤمنين والكفَّار. قال: هى اليوم تميِّز المسلمين! قلتُ: هى تميِّز السلفيين عن المسلمين فكأنهم ليسوا منهم، وهى تجعلك شبيهاً بكارل ماركس! قال: امهلنى لأفكر فى الأمر. قلتُ: أمامك حتى صباح الغد. (كنتُ أريد أن أختبر صدق رغبته فى العمل، وأخشى عليه من المضايقات الأمنية فى وقتٍ كانت فيه المكتبة تلفت أنظار الجميع فى الداخل والخارج).
فى اليوم التالى، جاء "د. محمد يسرى سلامة" حليق اللحية مشرقَ القسمات، فامتدت بيننا سنوات طوال مليئة بالمحبة والمعرفة والعمل التراثى الجاد، العميق. ثم اندلعت ثورة يناير، فانقلبت الأحوالُ كلها وتسارعت على نحوٍ ما كان أحدٌ يتوقّعه، فكان من ذلك ما يلى: هجر محمد يسرى سلامة البحث التراثى، ورابط فى اعتصامات الثائرين وخرج فى مقدمة المتظاهرين، وترك العمل فى المخطوط الذى كلَّفته بتحقيقه "كتاب شاناق فى السموم والترياق" وانهمك فى معارضته العلنية العارمة للمدير العام للمكتبة، باعتباره رمزاً من رموز الفساد (مات محمد يسرى سلامة، فجأةً، وبقى المديرُ مديراً إلى اليوم). وجرت بيننا وقائع كثيرة بالغة الخصوصية، لن أستطيع أن أذكرها هنا كلها، لكنها فى المجمل تؤكِّد ما رأيته فى "محمد يسرى سلامة" خلال السنوات الطوال التى عملنا فيها معاً.
كان شخصاً نقياً بعمق، مندفعاً ببراءة، عالماً متعمقاً فى الفقه واللغة ويكاد يبرز فى مجال تاريخ الطب، محبا للحياة والنساء، تعيسٌا فى العشق وفى السياسة، عظيم التقدير لشخصية أستاذه العلامة د. محمد إسماعيل المقدم، وصديقاً فى الوقت ذاته للإعلامى باسم يوسف! وافر الذكاء والمقدرة على التقاط الإشارات. أما أشهر الصفات التى رأيتها فيه، فهى كونه ضحوكاً. وهذا ما لمسته طيلة السنوات التى عمل فيها تحت إدارتى بمكتبة الإسكندرية، وكان يقول دوماً: بعد وقت العمل الرسمى، أنت لست المدير، أنت مثل أبى أو "علشان" متزعلش "أخويا" الكبير. يقول ذلك باسماً ثم يضحك.
وكان يوم جاء للعمل معى، متزوّجاً من زوجته الأولى التى كانت قد أنجبت من زواجٍ سابقٍ، ولدين، كان يضع صورتهما أمامه على المكتب. ولما ثارت بينهما المشكلات التى تثور بين المتزوّجين، أصلحتُ الأمر بينهما مرةً لكن الأحوال احتدمت مجدداً وأطل شبحُ الطلاق، فكان يعانى من التياعٍ عميق. ليس بسبب انقطاع العشرة مع زوجته، فحسب، وإنما حسبما قال لى يومها قبل أن تنهمر دموعه حارةً: الولدان أحبهما وكنتُ أتمنّى أن أكون أباً لهما بقية العمر. رحم الله محمد يسرى سلامة، الذى اختطفه الموت، وله من زوجته الأخرى (التى كانت زميلةً لنا، وتركت المكتبة عقب وفاته) طفلين أحداهما رضيع.
يكفى هذا الكلام، اليوم، وفى مقالة الاسبوع القادم سأحكى بعض اللمحات (الإنسانية) الأخرى فى حياة محمد يسرى سلامة، السلفى الضحوك، وأشيرُ من بعيد إلى نهايته الغريبة. المفاجئة. التى وقعت قبل عامٍ، فى خضم الاضطراب العام الذى كان يسود البلاد ويعصف بالعباد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق