الخميس، 4 سبتمبر 2014

الداعشيةُ المعاصرةُ وأصولُها «الرعب»

مقالتنا هذه هى «الرابعة» من سلسلة مقالاتٍ ترصد الأسس والقواعد العميقة، التى تقوم عليها النزعةُ الداعشيةُ التى تروّع أفعالُها الناس فى أيامنا المدلهمة هذه، المعتمة كالليل البهيم.. وكما ذكرنا فى مقالةٍ سابقة، فإننا نستعمل هنا كلمة «داعش» بمعنى اصطلاحىٍّ عام، لا تقتصر فيه الدلالةُ على تلك الجماعات التى تمرح حالياً بالأسلحة الفتّاكة وسكاكين الذبح فى سوريا والعراق، وفى عموم المنطقة التى أُسميها «الهلال المنكوب» وكانت فيما مضى تسمى: الهلال الخصيب!
فكلمة داعش هنا، لا تعنى فقط مختصر الحروف الأولى من تلك الخلافة الإسلامية المزعومة «دولة الإسلام فى العراق وسوريا» أو مختصرها الإنجليزى «الخبيث» المطابق لاسم الربة المصرية القديمة إيزيس ISIS وإنما تشتمل دلالتها الاصطلاحية على كل جماعة دينية مسلحة تفجُر فى عين الشمس، وتفجِّر الرغبات الهمجية الكامنة فى قاع النفوس البشرية. وهى الرغبات والشهوات البدائية الدفينة فى نفوس الناس من الأزمنة السحيقة التى عاشتها البشرية قرابة مليون سنة، قبل أن تنشأ الحضارات الإنسانية وتهذِّب هذه «الهمجية» باستعمال وسائل الضبط الرسمية «كالقوانين والنظم» وغير الرسمية، كالأعراف والتقاليد السائدة.. والضمير.
وقد استعانت الحضاراتُ الإنسانيةُ خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة، بما لا حصر له من أنواع الترقّى والتهذيب للطبيعة الإنسانية، فكان من ذلك: الفن، المعرفة، الأخلاق، الدين، التصوف. وغيرها من الوسائل التى تراكمت عبر تعاقب الحضارات، فصارت اليوم تراثاً للإنسانية، تسعى «الداعشية» لطمسه.. على النحو الذى شرحناه فى مقالة الأسبوع الماضى.
غير أن هذه النزعات الهمجية الأصيلة فى نفوس البشر، لم يتم اقتلاعها من قاع النفوس «ولن يتم ذلك أبداً» نظراً لرسوخها فى المناطق السفلية من النفس الإنسانية. وكل ما استطاعته الحضارةُ هو تغطية هذه النزعات الهمجية والرغبات المتوحِّشة والشهوات البدائية، بقشرةٍ هشَّةٍ يُعبَّر عنها بمفرداتٍ فضفاضةِ الدلالة مثل: العيب، الحرام، الضمير، الواجب، العاطفة.. وغيرها من القيم التى يرتقى بها الإنسانُ عن بقية أنواع الحيوان. ومعظم أنواع الحيوانات، فى واقع الأمر، أرقى بكثير من البشر فى حالتهم البدائية الأولى! فليس من بين الحيوانات نوعٌ يستمتع بالفتك ويقتل من أجل القتل، أو يلتذ نفسياً بإيذاء أفراد نوعه، أو يحيك المؤامرات بخبثٍ ضد إخوانه لإبادتهم! الإنسانُ فقط يفعل ذلك.. ثم يزعم أنه أرقى الكائنات، ومحور الكون، ونقطة دائرة الوجود.
■ ■
وبناءً على ما سبق، فإن قولنا «النزعة الداعشية» نقصد بها حالة النكوص والارتداد إلى الحالة البدائية الأولى، بكل ما تشتمل عليه من: شهواتٍ همجية، ورغبةٍ فى الانتهاك والفتك، والتذاذ بإيقاع الألم فى الآخرين. وغير ذلك من النوازع التى ينحطُّ بها الإنسانُ عن مرتبة الحيوان.. وكان انفلات هذه النزعات الداعشية وما يزال، مرتبطاً بالظروف السائدة فى بعض الفترات من تاريخ الإنسانية، ومن واقعها المعاصر. بصرف النظر عن الأسماء التى نعطيها للوقائع المعروفة، التى تقصَّفت فيها القشرة الحضارية الهشَّة فأطلَّ الهولُ المريع، وجرى الدمُ أنهاراً، وتمَّ الفتكُ والإبادة ونشرُ الرعب. أعنى الوقائع القديمة والمعاصرة، التى من مثل: حروبُ الرب المذكورة باحتفاءٍ عظيم فى الكتاب المقدس.. الاجتياحُ المغولى الهمجى للحواضر الإنسانية فى الصين والهند ودول الإسلام القديمة «الخوارزمية، العباسية، المملوكية البحرية».. المذابحُ المسيحية والإسلامية لإبادة اليهود.. المذابح اليهودية المعاصرة فى أرض الميعاد المزعومة.. مذابح الكاثوليك ضد البروتستانت فى غرب أوروبا.. مذابح رواندا المروِّعة بين الهوتو والتوتسى.. معسكر «أوشيفتز» النازى لإبادة الشواذ والغجر واليهود والمعارضين للنازية! وغير ذلك من الوقائع المشهورة، التى أطلَّ فيها الرعبُ وتمطّى الهولُ.
وهذا النكوصُ والارتداد إلى الحالة الهمجية الأولى، بكل ما فيها من نوازع وشهواتٍ مكبوتة فى النفوس، لا يقتصر على الجماعات والجيوش. وإنما هو نزوعٌ فطرىٌّ فى النفس البشرية ذاتها، وهو يظهر بصورة فردية مثلما يتجلًّى فى الصور الجماعية وحروب الإبادة الممنهجة. ففى حياة الأفراد، نرى ميل بعض الناس إلى استقطاع وقتٍ مخصوص من حياتهم الحضارية، والحضرية، لإفساح المجال أمام إنعاش الحالة الداعشية الكامنة فى قاع النفوس. وهو ما يظهر فى حرص أفراد الناس على مشاهدة أفلام الرعب المليئة بالفظائع، أو متابعة مباريات المصارعة المريعة، أو الانجذاب لأفلام الفتك والافتراس فى حياة الضوارى البرية.. وحتى فى الحالات القصوى من اللقاء الحميم بين الرجل والمرأة، حيث يؤدى الانهماك الزائد والرغبات المتوحّشة الدفينة فى قاع النفوس، إلى إحياء مؤقّت لتلك النوازع البدائية المسماة فى علم النفس المعاصر بالسادية والماسوشية «المازوخية» وإلى الالتذاذ بالإباحية المفرطة والتهتك المفرط. وكلما تزايد الشغف بهذه الأمور غير الاعتيادية، تقصَّفت القشرة الحضارية وانفجرت المشاعر الهمجية الأولى، فتكون الحالة المسماة للحماية منها: الخلل النفسى!
ويظهر هذا المسمى «الخلل النفسى» ويكتسب مشروعية ظهوره العلنى، عند التعبئة للحروب وعند احتدامها.. وفى غمرة الاهتياج الجنسى المتطرف.. وفى لحظة السُّعار المريع عندما يشمُّ الداعشىُّ رائحة الدم، فيصير كالضباع الضارية. والعجيب، أن وسائل الإعلام «بقصد أو دون وعى» تصرُّ على مخادعة البسطاء من الناس، حين تُردِّد العبارات الجوفاء البلهاء لتمرير أخبار الفظائع الداعشية الأخيرة، فتقول بألفاظٍ منمقةٍ وخادعةٍ ما هو معتاد من مثل هذه التعبيرات المجانية المُسطّحة: «ما يفعله الداعشيون لا صلة له بالإنسانية.. الإسلام بريئاً مما تفعله داعش.. إلخ». ثم يردِّد البسطاءُ من الناس ما ردَّدته وسائل الإعلام على مسامعهم «لأن المشاهدين ببلادنا هم عادةً: الصدى» فيصير هذا الرأىُّ المغلوط متداولاً ومشهوراً، فلا يفكر أحدٌ فى إعادة النظر فيه أو معارضته بأى نوعٍ من التأمل المؤدّى إلى إدراك حقيقةٍ بديهية، هى أن «الداعشية» تعبيرٌ صريحٌ عن الجانب العميق «المعتم» من طبيعة الإنسان، حيث تقبع النزعة الهمجية الموروثة من الأزمنة البدائية، وتبقى مكبوتةً فى نفوس البشر جميعاً، حتى تسنح الفرصةُ المواتية لظهورها الانفجارى فى غيبة مظاهر التحضُّر الإنسانى: التراث، الآثار، الفنون، الآداب، الضمير.. الحب.
أما القول الساذج، وبالأحرى الزعم العريض بأن الإسلام برىءٌ مما تفعله داعش، ومما فعله الداعشيون القدماء والمعاصرون. فهو قول واضحُ البطلان ولا يؤدى بأى حالٍ من الأحوال إلى فهم التجليات الداعشية، وإلا: إن كان الإسلام بريئاً مما يفعل الداعشيون، وإن كانت أفعالهم هذه حسبما يقول الطيبون والبلهاء من الناس «تُسىء إلى الإسلام». فلماذا لم ينتفض المسلمون شرقاً وغرباً ضد أفعال داعش، مثلما انتفضوا قبل أعوامٍ قليلة ضد الواقعة التافهة المسماة «الرسوم المسيئة للرسول»؟ وقد رأينا جميعاً، أيامها، كيف أدَّت هذه الصورة «الرسم الكاريكاتيرى» إلى هياجٍ عارمٍ ومظاهرات صاخبة فى بلاد المسلمين الفقيرة، شرقاً وغرباً، لنصرة نبى الإسلام! كأن نبى الإسلام أهم من الإسلام ذاته، وكأن الهوس الذى اجتاح البلاد باسم الانتصار للنبى الذى عُرف بإحسانه لمن أساءوا إليه، ليس إلا اهتياجاً داعشياً كان يبحث عن سببٍ ومبرّر مشروع، لكى ينفجر العلن.
ولو كانت الأفعال الداعشية ضد الإسلام. فلماذا لم يقم الأزهر الشريف مثلاً، أو الحكومات الوهابية، أو مدَّعو «إحياء» خرافة الخلافة الإسلامية، بالرد على الدواعش، وأفعالهم المريعة، وأفكارهم الغرائبية، والبيانات العجائبية التى تصدر عنهم كل ساعة، وأفلام الفيديو التى ينشرونها كل حين؟ فى حين يكتفى حاملو راية الإسلام والمتكسبون منه، بقولهم على هونٍ: هذا ليس من الإسلام.. هذا ضد ما أمرنا به الدين الحنيف.. الإسلام يدعو إلى التسامح! وغير ذلك من العبارات المعتادة والأكاذيب المراوغة.
وفى المقابل من هذه المواقف المائعة، يرفع الداعشيون من الشعارات ما يشير إلى أنهم المسلمون الحقيقيون، فيلبسون الجلابيب ويُطلقون اللحى ويمسكون بالبنادق الآلية، وهى «المعادل المعاصر للسيف» كأن الإسلام هو شكل الملبس وكثافة اللحية والسيف المسلول! ولا يكف الداعشيون عن «التكبير» وعن ترديد النصوص الإسلامية، سواءً من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، بحسب فهمهم السطحى للمتشابهات من آى القرآن ومُشتبهات الدلالة والصحة من الأحاديث الشريفة. فمن ذلك ما ورد فى قوله تعالى بالقرآن الكريم: «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظْ عليهم» (سورة التوبة)، «يا أيها النبى حرِّض المؤمنين على القتال» (سورة الأنفال)، «يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة».. وهناك كثيرٌ من تلك الآيات القرآنية الداعية إلى تأكيد الدعاوى الداعشية، والمبرِّرة لما يسعى إليه الدواعش من نشرٍ للرعب فى نفوس الآخرين، كأنهم بذلك يطبقون حكم الآية القرآنية: «سأُلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان».
أما النص الثانى فى الإسلام «الحديث الشريف» فسوف يجد فيه الدواعش ما يبتغون من تبريرٍ لما يفعلونه، لا سيما تلك الأحاديث الصحيحة التى من مثل: نُصرت بالرعب مسيرة شهر (رواه البخارى).. يا معشر قريش جئتكم بالذبح (رواه البخارى وابن حِيَّان والبيهقى).. أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (رواه البخارى ومسلم).
ولن يتسع المقام هنا للرد على «احتجاج» أصحاب النزعات الداعشية بهذه الآيات القرآنية والأحاديث «الصحيحة». ولا بد هنا من تنبيهٍ ضرورى، وانتباهٍ إلى أن صفة «الصحيحة» إنما تعنى صحيحة «الإسناد والرواية» وليس بالضرورة صحيحة المحتوى والمتن. وعموماً، فإن غايتنا هنا ليست القيام بالدور الذى كان يجب أن يقوم به الأزهر وأصحاب الإسلام المستنير «بدلاً من إصدار الفتاوى بتحريم «الشات» بين الجنسين» وإنما غايتنا ومرادنا الذى أسهبنا فى التمهيد له، رفقاً بالبسطاء من أهلنا، هو الإشارة إلى: استتار النزعة الهمجية خلف الشعار الدينى، لتبرير العتوِّ ونشر الرعب.. باسم الإله.. باسم الرب.. باسم الحق المطلق.
ولكن لماذا لا يردُّ حملة لواء الإسلام المعاصرون على دعاوى الدواعش المعاصرين؟ لأنهم فى واقع الأمر داعشيون! وما الاختلاف بين أولئك وهؤلاء إلا فرقٌ فى الدرجة، لا النوع. وما الإسلام عندهم جميعاً، إلا شعارٌ سطحى يبرِّر انفجار النزعة الداعشية فى النفوس، أو توق هذه النزعة للانفجار.. ولو لم يكن الإسلام «بحسب فهم المُتكسبين منه» هو المبرِّر الكافى لتمرير النوازع الداعشية، لكانت هناك أسبابٌ ومبرراتٌ أخرى دينيةٌ أو غير دينية! دينيةٌ، كالتعصب للمذهب «السنى أو الشيعى» أو غير دينيةٍ، كالميول العرقية والنوازع الثأرية.. غير أن المبرر الدينى يظل هو الأكثر قبولاً لدى غالبية المؤمنين بهذا الدين أو ذاك، وهو الأوفر قدرةً على تفجير أعتى الكوامن الداعشية.
.. يكفى هذا اليوم، وفى مقالة الأسبوع المقبل سوف نستكمل الكلام عن الأسس التى تقوم عليها النوازع الداعشية «القديمة والمعاصرة» وعن الملامح المميزة للهوجات الهمجية الدفينة، وسيكون ذلك بالوقوف عند ملمحٍ أساسىٍّ «آخر» لدى أصحاب النزعة الداعشية، بصرف النظر عن أسمائهم المتعددة: داعش، دامل، شاس، حماس، محبو الآلام، الفرِّيسيون، القاعدة، طالبان، جبهة النصرة، أنصار الشريعة، أنصار بيت المقدس، الوهابيون، التكفير والهجرة، القرامطة، الخوارج، أصحاب قلعة أَلَموت «الحشاشون» حازمون.. وهذا الملمح الأساسى الذى سنجعله موضوع المقالة المقبلة، هو: «السطحية».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق