الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

رموز مصرية: حسن حنفى (2 - 2)

فى مقالة اليوم نستكمل الكلام عن الجانب الإنسانى فى حياة د. حسن حنفى، الذى تعلو عندى مكانته عن مستوى "الأستاذ"، لتصل إلى درجة "الرمز". وقد رأينا فى مقالة الاسبوع الماضى بعض اللمحات السريعة والومضات الدالة على عمق شخصية هذا الرجل الاستثنائى، أطال الله عمره وأسعدنا بحضوره فى هذا العالم. ولسوف نضيف فى السطور التالية بعضاً من تلك الوقائع التى أضفت عليه مكانته، وأضافت إلى جهده الفكرى والفلسفى ملمحاً إنسانياً لابد لنا من الوقوف عنده، والتعلم منه، لاسيّما فيما يتعلق بالصلة التى جمعته مع أساتذة الفلسفة السابقين عليه، وجيل الفلاسفة الناشئ الذى لم يدَّخر "د. حسن حنفى" جهداً فى رعايته.
وبدايةً لابد من الاعتراف بالفضل لهذا الرجل الفيلسوف، فى الربط بين هذين الجيلين اللذين كانا منفصلين تماماً، يوم عاد حسن حنفى من اليابان وأحيا الجمعية الفلسفية. كنا نسمع عن "محمود أمين العالم" وعن "د. زكى نجيب محمود" وعن "د. محمد عبدالهادى أبوريدة" وغيرهم من كبار الفلاسفة، ونقرأ لهم، لكننا لم نرهم أو نتفاعل فكرياً معهم إلا فى إطار الجمعية الفلسفية المصرية، وبفضل الجهد الذى بذله حسن حنفى فى الجمع والتقريب بين هؤلاء الكبار، وبين جيل الصغار من أمثالى آنذاك.
وعلى عكس الأساتذة الذين حصلوا مثل حسن حنفى على الدكتوراة من أوروبا، وكنا نسميهم "المتأفِّفين"، كان حسن حنفى استثناءً فى حرصه على التقريب بين الأجيال، بوضع أسمائنا الصغيرة مع أسماء هؤلاء الكبار فى جلسات الجمعية الفلسفية، ومؤتمراتها. أيامها كنتُ أقولُ له: يا دكتور حسن، كيف سيتكلم هؤلاء المبتدئون فى حضرة كبار الفلاسفة؟ فيقول: الصغير يكبر مع الأيام. أقول: ألم تلحظ أن مستوى بعض بحوث المؤتمر، دون المستوي؟ فينظر إلى بعيدٍ ويقول كأنه يحدِّث نفسه، وهو يخاطبنى بما نصه: ها نعمل إيه يا أبوحجاج، مادام ده هوَّ مستوى الفلسفة فى مصر، يبقى لازم ندعمه ونقوِّى الضعيف وننحاز له.
ولم تكن الصلة أو بالأحرى الوصلة، التى حرص حسن حنفى على تقويتها بين الجيلين السابق واللاحق، تقتصر على التفاعل الفكرى فى قاعات المحاضرات وعند إقامة المؤتمرات. وإنما كان يحرص على تخصيص بعض الجلسات التى يسميها "نشاطا اجتماعيا" فى الأمسيات التالية على الجلسات الأخيرة للمؤتمرات الفلسفية، مع أن عينيه كانتا من شدة الإجهاد تنغلقان رغماً عنه لثوان معدودات. وإذا قيل له: لا داعى لجلسة المساء! يقول: هذا مهم حتى تلتقى الأجيال. ولم أكن فى ابتداء الحال مقتنعاً بوجهة نظره هذه، ثم عرفت مع الأيام أهمية تلك الجلسات المسائية حين رأيت الأساتذة يسردون علينا أحياناً بعضاً من تجاربهم الحياتية التى تبدو للوهلة الأولى خبرات شخصية، لكنها فى واقع الأمر رصيدٌ إنسانى عظيم. ففى مرةٍ نسمع من "محمود أمين العالم" ذكرياته فى المعتقل.
وكيف كانوا يعذبونه مع رفقائه من اليسار المصرى ويطلقون عليهم الكلاب المسعورة (حدث هذا فى مصر، وليس فى جُواَّنتنامو) ثم يبتسم عقب حكايته هذه الأهوال، وهو يقول إن سجاناً كان ينظر إليه باحترام ولا يناديه إلا بالأستاذ! ومن هذا السجان، حسبما سمعتُ منه، كان محمود أمين العالم (المحمود الأمين العالم) يستمد القوة. هكذا قال لي، وسط جمع، يوم كنت فى الثلاثين من عمرى وكان هو قد تجاوز السبعين. سألته، مندهشاً، كيف استطاع أن يعبر هذه الخبرات المؤلمة ويحتفظ بهذه الابتسامة التى لا تفارقه. فقال: طبعاً نبتسم لأننا ننسى الإساءة من البلد الذى نحبه.
وكان مَنْ يرعاهم حسن حنفى من الصغار، آنذاك، كثيرين. منهم: على مبروك، رمضان بسطاويسي، يحيى ذكرى (صاروا لاحقاً أساتذة) وكاتب هذه السطور. فلما أصدر د. حسن حنفى كتابه الشهير "الاستغراب" الذى يؤسس فيه لاتجاهٍ فكريٍّ جديد، يواجه به اتجاه "الاستشراق" الأوروبى، أقيمت بآداب القاهرة جلسة لمناقشة الكتاب، وانهمكنا فى نقده والرد على التفاصيل والتفاريع الصغيرة التى ينشغل بها الصغار. ظل حسن حنفى يسمعنا باهتمامٍ حتى انتهينا من صخب الاعتراض، قال بهدوءٍ رائق: يعنى هذا كلام مهم، ويمكنكم اعتبارى "بلدوزر" تحتاج بعض مفاصله إلى ربط، وأنتم تفعلون ذلك!. هكذا تحدَّث معنا حسن حنفى ونحن صغار، فلما كبرنا تحيرنا فيه: هل كان حقاً "بلدوزر" أم نسرٌا يحلِّق بنا فى سماوات الفكر!.
وعندما بدأت القطة الأمريكية فى التهام صغارها "القاعدة، طالبان" عقب نجاح هؤلاء فى إزاحة الروس عن أفغانستان، بدأ الإعلامُ الغربى فى رسم صورة ذهنية تجعل الإرهاب مرتبطاً بالضرورة بالإسلام، كأن أصحاب الديانات الأخرى ملائكة هبطوا من السماء ليمشوا هوناً على الأرض بأجنحتهم، والمسلمين وحدهم هم الإرهابيون! وراجت أيامها صورة "أسامة بن لادن" وإلى جواره دوماً البندقية الآلية، كأنها الرمز الدال على المسلمين. وفى تلك الفترة التى دامت لسنوات (وكانت مقدمةً لما نشهده الآن من اهتراءٍ لبلادنا) كانت الحكومات العربية والإسلامية غافلةً تماماً عن هذا التمهيد الدعائى، وغير مكترثة بالصورة التى يرسمها للإسلام والمسلمين. وكأن "حسن حنفى" وحده، كان المسئول عن تصحيح هذه الصورة الذهنية بإظهار العمق الإنسانى للإسلام، فظلّ طيلة هذه السنوات يجوب أنحاء الأرض (دون أن يدعمه أحد) متحدّثا فى المؤتمرات الدولية والندوات الحاشدة، عن الصورة الأخرى (الناصعة) للإسلام والمسلمين، فى وقتٍ كان المتأسلمون فى بلادنا يتهمونه بالعداء للإسلام.
وقد رأيته أيامها مُنهكاً من السفر المتوالي، حتى أنه فى مرة ذهب لإلقاء محاضرة عن "الإسلام" فى جنوب أفريقيا، وطار من هناك ليلقى محاضرة أخرى فى السويد الواقعة بشمال العالم. وكان فى بعض الشهور، يشارك فى عشرة مؤتمرات وندوات أو أكثر (بأنحاء متعدّدة من العالم) دون أن يخلّ بواجبه تجاه عمله أستاذا للفلسفة بآداب القاهرة، ومحرّكا أساسيا للواقع الفلسفى فى مصر. كان يخبرنى بأنه أمضى ليلة واحدة فى بلدٍ ما، وسافر فى الصباح التالى إلى بلدٍ غيره لإلقاء محاضرة أخري، وعاد فى اليوم الثالث إلى مصر ليلحق بهذه الندوة! أقولُ له، وكان قد تخطى الستين من عمره، أن هذا الجهد الجهيد كثيرٌ وغير مأمون العواقب. فيقول بالحرف: نعمل إيه، مفيش حد تانى بيقوم بالدور ده، وصورتنا فى العالم سيئة جداً. وللأسف، تكاد المساحة المخصصة لهذه المقالة على النفاد، ولم أجد الفرصة بعد لذكر المزيد من ملامح الثراء الإنسانى فى شخصية حسن حنفي، حسبما رأيتها وحسبما حكى لنا عن وقائعها العديدة مثل: رحلته على دراجة (عقب حصوله على الثانوية العامة) ورؤيته لكل القرى المصرية. تفاعله مع أساتذته فى السربون، من المستشرقين العظام (أمثال: لوى ماسينيون، هنرى كوربان، لاووست، جال فالَ، جون فييت، بول ريكور.) الذين تعلَّم منهم، قبل أن نتعلَّم منه. ولن يتسع المجال لسرد ما رأيته وسمعته خلال ربع قرن، من حسن حنفى الذى طالما اتهمه الجهلاء فى دينه، وهو الذى يقول: الدين مظلوم مع السلطة التى تتخذه شعاراً. وهو الذى كثيراً ما هاتفته فى منزله، فوصلنى صوت الشيخ "عبدالباسط عبدالصمد" وتلاوته البديعة للقرآن، وحين أسأله عن ذلك يقول: طبعاً طيلة عمرى أسمعه، فهو قيثارة السماء، وفى صوته فنٌّ. وروحانيةٌ. وفلسفة. هكذا يتحدث حسن حنفى.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق