الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

رموز مصرية : أبوالعز الحريرى (2/2)

ما بين كتابتى هذه المقالة، والسابقة عليها، نعيتُ «أبوالعز» على صفحتى بالفيسبوك فور إذاعة خبر وفاته بمستشفاه يوم الأربعاء الماضى،
بقولى بلسان الحال: «وداعاً أبوالعز الحريرى، الروح الحريرية البيضاء..» إذ كانت روح هذا الرجل، حقاً وصدقاً، حريريةً لا شوائب تلوثها بالضغائن والغل، وبيضاءَ لا تكدرها السخائمُ.
وقد رويتُ فى مقالة الأسبوع الماضي، كيف ارتبط بزوغ نجم «أبوالعز» سياسياً وجماهيرياً، بواقعة الاعتداء عليه بسكين يوم فوزه فى انتخابات البرلمان، وشقّ وجهه على يد بعض المتشرّدين المأجورين.. ولم يقف أبوالعزّ طويلاً عند ذاك الاعتداء، ولا عرفنا عنه يوماً أنه تعقَّب المعتدين عليه، مع أنه كان يقدر على النيل منهم بأقل مجهود، نظراً لمكانته فى نفوس الناس بمنطقة (كرموز، راغب، غيط العنب، محرم بك) ولمكانه فى مجلس الشعب آنذاك.

كان المعتدى عليه معروفاً بشخصه، وكان يمكن الثأر منه وسقايته من الكأس ذاته، لا سيما أن «الحكومة» تخلَّت عن هذا الرجل (الجزار) بعد سنواتٍ قليلة من فعلته الغشوم التى شوَّهت وجه «أبوالعزِّ». وقد تخلّت الحكومة آنذاك عن ذاك الجزّار، لأن ابنه تمادى فى الظلم الموروث عن والده، وأهان عميد الكلية المرموقة التى التحق بها هذا الابن المدلّل، بمجموع هزيل (أظنه كان خمسين بالمائة) على اعتبارٍ، مكذوبٍ، هو أن الولد ليبى وليس مصرياً! ومن ثم، يجوز له الالتحاق بالكلية كالوافدين دون الوقوف عند مسألة المجموع. والعجيب فى هذا الأمر، أن والده «الجزار المأجور» كان هو الأداة التى استعملتها الحكومة أيام الخلاف بين السادات والقذافى، للنكاية من النظام الليبى! إذ أرسل الجزارُ صبيانه وبعض المأجورين فهاجموا قنصلية ليبيا فى منطقة الشلالات (أمام باب الإستاد) وأحرقوها بعدما نهبوها. وقالت حكومتنا أيامها إنها: «حركة غضب شعبي، لم تتمكّن قوات الأمن من السيطرة عليها.. فلما تجاوز الولدُ قدره وقدر أبيه، واعتدى على العميد الذى كان هو الآخر شخصاً حكومياً مرموقاً، أكلت القطةُ أطفالها.. ولهذا، كان بإمكان «أبوالعزّ»ّ أن يثأر لنفسه من الذين ظلموَّه وعليه اعتدوا، لكنه لم يفعل! سألته بعد سنوات من الواقعة الأولى، عن سبب تسامحه فى هذا الأمر فقال مانصه: يا راجل انس اللى فات، خلِّينا فى دلوقت، البلد أهم.

ومثلما بدأ أبوالعز مساره السياسى باعتداءٍ غشوم عليه، انتهى هذا المسار باعتداءٍ أعتى وأشد بطشاً.. ففى السنة الحزينة التى حكم فيها الإخوان مصر، عربد أتباعهم فى النواحى المصرية فأثاروا حفيظة الناس ضدهم. وفى يومٍ بائس، احتدم الحال بين ما كان يُسمى«شباب الإخوان» من جهة و«شباب الثوار» من الجهة المقابلة. جرى ذلك فى منطقة سموحة، وهناك أحاط الإخوانيون بمجموعة كبيرة من غير الإخوانيين، وحبسوهم فى شارع مغلق بجوار نادى سموحة. ولم تستطع قوات الشرطة التصرف، فما كان من مدير أمن الإسكندرية، إلا أن اتصل بأبوالعزّ «الحريرى» للاستعانة به فى فض الاشتباك وفك الاحتباس.. كان أبوالعز يقود سيارته المتواضعة متجهاً لمنزله، ومعه السيدة زوجته، فلما أتاه الاتصال التليفونى انعطف عن طريقه وذهب إلى منطقة سموحة الملتهبة، عساه يساعد فى تدارك الأمر، فلا يقع مزيدٌ من الضحايا. وما كاد «الإخوان» يرونه، حتى قاموا بفعلةٍ خسيسةٍ: سمحوا لسيارته بعبور خط الهجوم الخلفى، وقبل وصوله إلى خط الهجوم الأمامى، تكالب عليه الخطَّان الإخوانيان وحطموا سيارته واعتدوا على زوجته وكسروا عظامه وملأوا وجهه دماً متدفقاً من جروح كثيرة.

فى المساء نشرت المواقع الإلكترونية وصفحات الفيسبوك صورة أبوالعز مضرَّجاً بدمائه، فاتصلتُ به للاطمئنان عليه، وكنتُ أظن أن أحداً غيره سوف يرد على التليفون، لكنه ردَّ بنفسه وحكى لى ما وقع له.. كان يحكى بحيادٍ، كأنه يقصُّ واقعةً جرت مع غيره!لم أسمعه يشتم أحداً، أو يحتدَّ، وإنما حكى ما جرى من واقعة الاعتداء عليه، بحيادٍ لا يستطيعه إلا الأقوياء حقاً.

كان الإخوان يكرهون «أبوالعز» لأنه ترشّح فى الانتخابات الرئاسية التى فاز بها لاحقاً «د. محمد مرسى».. وكان أبوالعزّ يعلم أنه لن يفوز فى تلك الانتخابات، لكنه وجدها فرصةً لإيصال آرائه السياسية التى أعلنها صراحةً فى أكثر من برنامج تليفزيونى أثناء الحملة الانتخابية، فقال فى قنوات التليفزيون (على الملأ) قبل حسم الانتخابات بفترةٍ، بالحرف الواحد: «هناك صفقة شيطانية بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين، وسوف تضيع مصر إذا تمت هذه الصفقة». وربما كان أبو العز مخطئاً فى رأيه هذا، وربما كان مُصيباً،. غير أن المصريين، على كل حال، لم يسمحوا لبلادهم أن تضيع. وأعلنوا أن يوم 30/6/2013 سيكون نهاية لحكم الإخوان فى مصر! أيامها قلتُ فى قنوات التليفزيون(على الملأ أيضاً) إن الإسكندرية لن تصبر حتى يوم 30/6.. وبالفعل ، وقبل الموعد بأيامٍ ثار السكندريون ثورة عارمة، فلما جاء يوم الثلاثين من يونيو لم يعد بالمدينة «الحرة» أيُّ مقرٍّ أو مكتبٍ لجماعة الإخوان، أو لحزبهم المسمى: الحرية والعدالة.. إذ أحرق الإسكندرايون المقار جميعها، علناً، ولكنهم لم يعتدوا على أى شخصٍ إخوانى. وحتى حين أراد بعض الشباب السكندريون الثأر لأبوالعز الحريري، وأحاطوا بالإخوانى المعروف صبحى صالح وضربوه وكادوا يلقون به تحت عجلات قطار «أبوقير» جاءهم من قلب المدينة رجلٌ يسعي، وصاح فيهم: كده حرام، كده مفيش فرق بينكم وبين الإخوان!.. فتركه الشبابُ للناس، فذهبوا به للعلاج فى مستشفاه الذى صرَّح فيه بعبارته الشهيرة، التعيسة: أموت على الإخوان، أموتُ على الإخوان.

رأيتُ أبوالعز الحريري، آخر مرة، صباح يوم 30/6 أمام جامع القائد إبراهيم (ربيب محمد على وقائد جيوشه) فوجدته يسير متوكئاً على عكَّازٍ لم أعهده من قبل، ويحرِّك ساقيه بصعوبة. كان بعض الشباب يحيط بى، فأخذنى أبوالعزّ من بينهم وهو يقول لي، إن أساتذة الجامعة مجتمعون مع الثوار فى الشاطبى أمام مقر جامعة الإسكندرية، وعلينا الذهاب إليهم لنقول للناس شيئاً. قلتُ له إن مخاطبة الجماهير فى الشوارع ليست دورى، فقال:معلهش، النهارده يوم استثنائى.. قلت له مداعباً: إنتَ مالك عجزت كده فجأة؟ قال: لا والله مش العَجَز، دى آثار «العلْقة بتاعت الإخوان».

قال ذلك وهو يبتسم ساخراً! وحين وصلنا حيث يحتشد الجمع، كان واحداً من أفضل وأجمل الرجال فى الإسكندرية (بالمعنى العميق للفضيلة والجمال) وهو الدكتور محمد رفيق خليل«الشاعر، الجرّاح، نقيب الأطباء» يقف شامخاً، ممسكاً بالميكروفون الذى يخاطب من خلاله الجماهير. بعد دقائق دفعنى أبو العز إلى المنصة وأعطانى الميكروفون، فقلت للثائرين:«انتبهوا، فنحن لم نخرج اليوم للقضاء على شباب الإخوان أو أتباعهم والمتعاطفين معهم، خروجنا اليوم له هدف واحد هو إزاحة رئيس فاشل، فلا تنسوا هذا الهدف وتنحرفوا إلى غيره».. قلتُ ذلك، وأعطيتُ الميكروفون إلى أبوالعز، فصاح رحمه الله بهتافٍ كان آخرُ ما سمعته منه: تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق