الأربعاء، 13 أغسطس 2014

رموز مصرية : نصر حامد أبوزيد

تحتاجُ الأممُ وقتاً طويلاً، كى تحظى بشخصياتٍ لامعةٍ تقود عقلها الجمعى إلى الأمام، بينما لايحتاج المجرمون والمأجورون والمتخلّفون بذل الجهد الكبير من أجل هدم المنارات وإطفاء الشموع المضيئة فى عتمة التخلُّف. إذ يكفى أن يقول شخص مغرضٍ أو جاهلٍ أو مريض القلب: فلان كافر.. فيجد هذا «الفلان» المُتّهم بالكفر، مَن يتطوّع بقتله.

فى مطلع التسعينيات عرفتُ الدكتور «نصر» المفكر المصرى اللامع، الذى كان فى صغره طفلاً (درويشاً) يعيش فى منطقة «قحافة» اللصيقة بمدينة طنطا، وهى المدينة المتمحورة حول مقام السيد «أحمد البدوى» الصوفى الكبير، وكانت من قبل استقراره و وفاته مجرد بلدة لا ذكرَ لها اسمها: طندتا. وكان صديقى الطنطاوى الجميل، يُعرف فى أيام طفولته وشبابه المبكر باسم: الشيخ نصر! ولذلك ، لم يصدِّق أهله الأولين أيَّ شيءٍ مما أثير ضده بعد سنوات طوال، من اتهامات حادة بالإلحاد والعداء للإسلام.. لاسيما تلك التهمة التى راجت فى التسعينيات أثناء أزمته الشهيرة وتداولتها ألسنة الجهلاء، وكان نصُّها البائس: د. نصر أبو زيد، ملحد، لأنه يدَّعى ان القرآن نصٌّ!
أذكرُ أيامها، أن أحدُ الأساتذة (الجهلاء) صاح كأنه يصرِّح بسرٍّ مهول: «نصر أبوزيد له كتاب بعنوان «مفهوم النص» يقول فيه إن القرآن الكريم نصّ».. قلتُ له، وكنا آنذاك فى ندوة حاشدةٍ بمقر جامعة الدول العربية: وأين المشكلة؟ القرآنُ الكريم نصٌّ والحديثُ الشريف نصٌّ، ونحن نقول كما كان القدماء يقولون «القرآن ينصُّ على كذا كذا» ونقول «لا اجتهاد فيما ورد فيه نصٌّ» فأين المشكلة؟.. قال محدِّثي، على الملأ: استغفر الله، انتم مفيش فايدة فيكم!
..عرَّفنى بالدكتور نصر أبوزيد، أستاذنا المشترك د. حسن حنفى (سنتحدث عنه فى مقالةٍ قادمة) وكان ذلك بعد عودتهما من سنوات الإعارة باليابان، هروباً من عنت الرئيس«السادات» مع أساتذة الجامعة المستنيرين، وهو ما عُرف آنذاك بمذبحة أساتذة الجامعة. ومع مرور الأيام توثّقت صلتى بالدكتور «نصر» الذى كان يوم زرته فى بيته أول مرة، يسكن فى شقةٍ شديدة التواضع بأطراف القاهرة، لا تزيد مساحتها عن مساحة حجرات الطلبة فى المدن الجامعية. قلت له، بعد أن قامت زوجته الطيبة لإعداد الشاي، ما مفاده:أنت عائد من إعارة، فلماذا لا تنتقل إلى شقة أوسع؟ فقال: «سأفعل، لأن الكتب هنا تزاحمنى ولا تترك مكاناً للحركة كما تري».. قال ذلك ببراءةٍ طفولية، كأن الكتب هى المشكلة!
 وبالفعل، انتقل «نصر» بعد فترة إلى شقة مناسبة للسكني، فى الجيزة، فكان أول ما فعله فيها هو تجهيز مكتبةٍ بعرض الحوائط، من خشبٍ غير مدهون! قلت له يوم زرته هناك:لماذا لاتطلى الخشب؟ قال: «لأنه يتنفس مثلنا، والطلاء يكتم أنفاسه».. كان يتحدّث بجديةٍ لا هزل فيها.
فى تلك الأيامُ، التى خلت وصارت هى وأهلها الآن كالأحلام، كُنا نتزاور كثيراً. وكان «نصر»يأتى إلى الإسكندرية، ويقيم فى بنسيون فى محطة الرمل سعر غرفته فى اليوم والليلة ثمانية عشر جنيهاً، يخبرنى بذلك وهو فخور ثم يضيف باسماً: وبالإفطار كمان! أقول له:لماذا لا تُقيم بفندقٍ أفضل، بدلاً من هذه المعيشة الفقيرة؟ يقول: أنا من جيل فقير، لا يخجل من الفقر.. أقول: لماذا لا تذهبْ إلى جامعات الخليج فى إعارة، لتأتى بالمال الكثير؟ يقول: «ولماذا لم تذهب أنت.. ثم يضيف ما نصه، بالحرف الواحد: ياعم يوسف عندنا هنا هَمّ كبير، وشُغل كثير لازم يتعمل، العقل الجمعى فى خطر ومفيش حد واخد باله، علشان كده ماينفعش أسيب مصر تاني، كفاية السنين اللى ضاعت منى فى اليابان.
هكذا تحدث معى «نصر حامد أبو زيد» الذى كتب بعد بسنوات طوال، كتاباً بعنوان: هكذا تحدث ابن عربي.. كتبه بعدما اضطر إلى الابتعاد عن مصر، مُتحسّراً، وهو الذى كان يظنّ أنه سيبقى طيلة عمره بين أهلها الذين ظلَّ منشغلاً بواقعهم الفكرى والسياسي. لكنه فى أوج عطائه الفكرى دُفع إلى مُفارقتها دفعاً، وحين انعقد عزمُه على العودة إليها لم يتمكَّن، حسبما كُنا نأمل.. وحسبما سيأتى بيانه فى مقالة الأسبوع القادم.
فى ذاك الزمان، كنا نمضى الساعات الطوال فى مناقشة القضايا المتعلقة بالاتجاه العقلانى عند المعتزلة (كان نصر أبوزيد، يودُّ إحياء الفكر المعتزلى بطبيعته العقلانية)وقضايا التجربة الصوفية التى أراها رحلة روحية شديدة الخصوصية، وكان يراها خبرة دينية محكومة بإطارها الزمني.. أقول له: الرؤية الصوفية، لوحةٌ فنيةٌ تحتاج التذوُّق! فيقول: هذا كلام غير علمي، كلام دراويش!
كان ابنى «علاء» آنذاك فى السابعة من عمره (هو اليوم فى السابعة والعشرين) وكان يجلس بقُربنا يُحدِّق فينا ويلتفتُ كالسنُّور الصغير إلى كُلٍّ منا حين يتكلم، فأشفق عليه من صعوبة متابعته لما نتحدّث فيه، فأقول: «ياعلاء، روح أقعد جوَّه مع ماما ومرات عمو نصر».. فيقول: أنا مستنى تخلَّصوا الكلام ده، علشان نروح بحرى نشرب سوبيا.
يهبُّ «نصر» واقفاً وهو يقول مازحاً: هيا إلى السوبيا. كان هو وطفلى الصغير يعشقان مشروب السوبيا (طحين الأرز ممزوجاً باللبن والفانيليا) الذى يقدّمه المحل الشهير بمنطقة بحرى «طلعت». وطيلة الطريق، كان نصر (العلّامة) وابنى علاء يتحدثان كأصدقاء يحترم كُلٌّ منهما الآخر، ويحبه.. حتى أن «نصر» كان فى بعض الأيام يتصل بى هاتفياً (قبل ظهور الموبايل) فيرد عليه علاء، ولا يُخبرنى باتصاله! وإذا سألته، يقول باقتناع طفلٍ لم يبلغ العاشرة: «عمو نصر صاحبي، هوَّه اتصل واتكلمنا مع بعض، وخلاص.. هوَّه لازم أقول لحضرتك يعني. أقول ذلك للدكتور نصر أبوزيد، فيرد عليَّ : «طبعاً، احنا صحاب، إنت مالك».. ويضحك كطفلٍ صغير.
كان «نصر» طفلاً كبيراً، وعالماً عميقاً، وإنساناً كبيراً عصفت به بلادنا وظلمته ظلماً كبيراً. وقد انقلبت حياته رأساً على عقب، عقب تطليقه لزوجته الأولى الفيَّاضة بالطيبة، وبلغ به الاضطراب غايته عقب صدور حكم قضائى بتطليقه «شرعاً» من زوجته الثانية، الزميلة د. ابتهال يونس.. وهذا حديث ذو شجونٍ وتفاصيل، سوف نلقى عليه الضوء فى المقالة القادمة، لنرى ما فعله الزمان بالإنسان.. فإلى لقاء الأربعاء المقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق