السبت، 15 نوفمبر 2014

ضرورة الثورة الثقافية

فى المقالات الثلاث السابقة توقفنا على الترتيب عند مفهوم الثورة الثقافية وارتباطها بالثورة السياسية من جهة واختلافها عنها من الجهة الأخرى،
 ثم توقفنا فى المقالة التالية عند التشويه المصرى للثورة الثقافية التى كان من المفترض أن تتزامن وتتوازى مع الإيقاع الثورى العام الذى شهدته مصر والمنطقة العربية فى السنوات الأخيرة، ثم كانت وقفتنا الأسبوع الماضى عند النتائج السلبية لعملية الإجهاض المتعمد للثورة الثقافية التى كانت تتشكل فى أثناء (وفى رحم) الأحداث الثورية المتلاحقة عبر التحولات الجوهرية التى صاحبت الثورة السياسية، ولكن من القضاء عليها بشكل استباقى كيلا تتكون فى المجتمع المصرى (والعربى) قوى معارضة وتكتلات من شأنها أن تؤرق الحاكمين، على اختلاف مشاربهم وهو الأمر الذى سمح باجتياح التيارات الدينية المتطرفة للساحة العامة المصرية والعربية، ودفعنا ثمنه غاليا (ومازلنا ندفعه) مما يدعونا الآن إلى استدراك هذا الخطأ الفادح.. وهو الأمر الذى ندخل منه إلى موضوع مقالتنا اليوم عن أهمية ومعوقات الثورة الثقافية التى لا غنى لبلادنا عنها.
تأتى ضرورة المبادرة إلى «الثورة الثقافية» بكل ما تنطوى عليه من إعادة النظر فى الملامح المحورية لواقعنا الثقافى المعاصر فى مصر، والمنطقة العربية، فى عدة وجوه.. أولها تدهور مستوى التعليم الحكومى وضعف الأداء الإعلامى وقصوره المريع، مع أن التثقيف حسبما نص الدستور الأخير هو حق لكل مواطن ولا أدرى كيف يمكن تأدية هذا (الحق الدستورى) فى وقت يعانى فيه التعليم والإعلام بلايا تحتاج خططا طموحا طويلة المدي، واجراءات راديكالية (جذرية) لا يبادر أحد اليها تحاشيا لتحمل المسئولية وتجاهلا لخطورة التدهور العام فى هذين القطاعين (التعليم الحكومى الإعلام الحكومى والحر) ناهيك عن رداءة أغلب المنتجات الفنية والانتاج الدرامى، السينمائى والتليفزيونى ولهذا تكون الثورة الثقافية وإعادة بناء المفاهيم العامة مسألة أشد أهمية وأكثر الحاحا لتقليل الأثر السلبى الناتج عن التدهور العام فى القطاعين المذكورين لأن نظم التعليم المتطورة والسياسات الإعلامية المستنيرة كان يمكن أن تنوب عن (الثورة الثقافية) وتقوم بدورها بشكل مرحلى يؤدى إلى التثقيف العام ودفع العقل الجمعى إلى التطوير والخروج من حالة السطحية والسذاجة.

ولا نريد أن نزيد ما سبق أن ورد فى كتابات سابقة نشرناها هنا من تأكيدات على أن حالة الصراع الجارية فى مصر والمنطقة العربية المحيطة بها، هى فى جوهرها مواجهات ثقافية فى الأساس تجرى بين نوعين من التفكير أحدهما مشدود بالآخر والآخر مشدود إلى الواقع المعيش وبين هذا التفكير وذاك، أطياف فكرية تائهة وشائهة الملامح لم تنجح فى التقريب بين أولئك الذين يسميهم الإعلام العام (المتطرفين) وهؤلاء الذين يسمون اعتباطا (المواطنين الشرفاء) أو الناس العاديين، ومن دون إعادة طرح التصورات الكلية العامة، المتعلقة بمفاهيم مثل: الذات، الوعى التاريخى العام، استشراف المستقبل، قواعد الضبط الاجتماعى، معنى الفن، طبيعة المشاركة المجتمعية.. وغير ذلك من (التصورات العليا) المهيمنة على العقل الجمعى، لن نستطيع تجاوز المأزق العام والعبور بسلام من الحالة الحالية التى لاتجدى معها المواجهات الأمنية، وحدها، وإنما لابد أن نتوازى معها وتسير بإزائها عمليات إعادة النظر فى المفاهيم والتصورات العامة، وهو مالا يمكن عمله إلا بثورة ثقافية تطرح وجهة نظر جديدة، وبالأحرى، وجهات نظر متعددة، فى المستقر من الأفكار العامة. والفكرة، على رهافتها، هى المقدمة لكل عمل (وهى أيضا: المحرك له).

كما تأتى ضرورة الثورة الثقافية فى هذا العجز، شبه التام، للمؤسسات الحكومية ذات الطابع الثقافي، فقد تواضع أداؤها مؤخرا وانصرف الناس عما تقدمه من بضاعة مزجاة(قليلة) بسبب غرق هذه المؤسسات فى مشكلاتها الذاتية ووقوعها فى براثن اللوائح الحكومية العقيمة، ناهيك عن عقد العقليات التى تديرها.. هذا فى الوقت الذى تحتاج فيه البلاد إلى تطوير كبير فى الرؤى، وتأهيل عظيم القدر لنظرتنا العامة للموضوعات الكبرى.. بعبارة مباشرة، نحتاج فيه فلسفة جديدة، وعقلا جديدا يناسب العالم الجديد.

وقد يقول قائل، إن الناس فى بلادنا قد ملوا الحديث عن الثورة، ولا مجال عندهم لقبول أى تصورات ثورية جديدة قد تطيح بما يرتاح إليه اليوم معظم المصريين فى ظواهر الاستقرار النسبى، أو عمليات التعافى المحدود والانتظام فى مناحى الحياة الاجتماعية. ولهذا القائل نقول: الثورة الثقافية ليست عملا يتم بالصخب العام والخروج إلى الشوارع بالهتافات المهددة للاستقرار الهش، وإنما هى جهد هائل يتم بصمت فى العقول الرشيدة التى تعى أهمية إعادة النظر فى هذا الكم الكبير من الأوهام والخرافات والمفاهيم المغلوطة التى استقرت فى الوجدان العام... الثورة الثقافية تحتاج التأمل والتفكير المنطقى، وليس الزعيق والهتافات، تحتاج الجرأة على طرح مفاهيم جديدة ونقد المستقر ونقض عواره، وليس الاحتياج الذى يختلط فيه الحابل بالنابل والصادق بالمرتزق.

وأخيرا، فالثورة الثقافية هى الضامن للسلامة العقلية العامة، والضابط المنطقى لأساليب التفكير فى المجتمع، والطريق المؤدى إلى تجديد وتطوير العقل الجمعى وطريقة النظر إلى الموضوعات الكبرى.

... وهذا كله من مستلزمات الاستقرار والتقدم العام ،فلايمكن أن يتطور مجتمع ويعبر مشكلاته دون قدرة على الارتقاء بالرؤى العامة المستقاة من الموروث القديم والمفاهيم المعاصرة المسماة اصطلاحا (رؤى العالم) وهذا الأمر الضرورى لايمكننا القيام به من دون ثورة ثقافية حقة، تعاود النظر فى المستقر وتستشرف الآتى وتحفظ المجتمع من الرجوع إلى حالة الارتباك الفكرى الذى هو البيئة المناسبة لظهور تيارات التطرف والتعصب المذهبى والفعل العنيف المسمى إعلاميا: الإرهاب.

وبالطبع، فإن القيام بهذا الواجب الضرورى «الثورة الثقافية» تحول من دونه عدة معوقات، لابد من الانتباه إليها والعمل على إزاحتها من مجرى النهر... وهذا هو موضوع حديثنا فى مقالة الأسبوع المقبل، التى ستكون بعنوان دال على محتواها، معوقات الثورة الثقافية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق