السبت، 15 نوفمبر 2014

الفتح الإسلامى «الأصلى» لكردستان!

من أعظم البلايا التى يمكن أن تلحق بأمة من الأمم، أن يصل الجهل بأهلها إلى الدرجة التى لا يمكنهم معها تحديد دلالة المفردات والألفاظ المستعملة بينهم، فلا يمكن لهم التواصل فيما بينهم إلا بالقدر الذى تتواصل به الحيوانات العجماء حين تصدر أصواتاً مبهمة لا تفهم إلا على نحو إجمالى عام، فهذا «الصوت» تعبير عن الألم، وذاك «الصوت» نداء للتسافد والتناكح، أو إنذار للتهديد واستعراض القوة، أو إعلان لحالة ابتهاج مؤقت كتلك التى نراها فى جبلاية القرود.. وهذه «الأصوات» لا يصح أن نسميها كلمات أو ألفاظاً أو مفردات، أو غير ذلك من مكونات «اللغة» بالمعنى المحدد لهذه الكلمة المميزة للنوع الإنسانى خصوصاً.
ولا نريد أن نطيل هذه المقدمة بالكلام عن أهمية اللغة للبشر، فمن المعروف أن الإنسان لم يعرف الحضارة إلا عندما تراكمت معارفه بعد تطور لغته وكتابتها، بينما ظلت بقية الحيوانات تحيا فى دورات متتالية لا يختلف فيها جيل عن سابقه، مثلما هو الحال فى الإنسان الذى امتاز بالتفكير (من خلال المفردات) والتدوين (لنقل المعرفة ونتائج الأفكار) والتواصل (بانتقال المعارف من جيل إلى جيل).
■ ■
وفى مطلع شهر أغسطس الماضى، وبعد «سبات» إعلامى مريب، طفرت فجأة الأخبار والتقارير العجيبة عن الظهور المفاجئ للتنظيم المسلح المعروف الآن اختصاراً باسم داعش (دولة الإسلام فى العراق والشام)، وكان من بين البيانات العجيبة التى تناقلتها الصحف ووسائل الإعلام العالمية والعربية، بيان داعشى نشر يوم الثالث من الشهر التاسع (أغسطس، آب) يقول ما نصه: أعلن تنظيم داعش أنه نجح فى فتح الشريط الحدودى بين محافظة «نينوى» التى يسيطر عليها، ومحافظة «دهوك» التابعة لإقليم كردستان العراقى، وأعرب التنظيم عن أمله فى استكمال فتح المنطقة الكردية بالكامل!
وفى نص هذا «البيان» الخالى من التبيان وردت كلمة «فتح» مرتين، من دون أن يتوقف أحد منا عند دلالة هذه الكلمة التى تعنى لغة واصطلاحاً: الدخول العسكرى بالدين الإسلامى إلى أرض جديدة والسيطرة عليها بالحرب أو بالاستسلام لتفادى القتال (بحسب المصطلح القديم: عنوة أو صلحاً).
وربما كانت وكالة أنباء الأناضول، التركية، التى أطلقت هذا البيان، أو بالأحرى هذا التصريح الداعشى، معذورة فى عدم وقوفها أمام دلالة كلمة «الفتح» التى وردت فى النص مرتين. معذورة لأنها فى خاتمة المطاف وكالة أنباء أعجمية (غير عربية) أما العجب العجاب فهو حال إعلامنا العربى الذى لم ينتبه إلى أن كلمة «الفتح» لا يصح استعمالها إلا للدلالة على دخول المسلمين إلى «ديار الكفر» والاستيلاء عليها عنوة أو صلحاً. وكيف يصح ذلك، إذا كانت كردستان كلها مفتوحة أصلاً منذ قرون طوال من الزمان، وغالبية سكانها مسلمون على المذهب السنى ذاته الذى تزعم جماعة داعش أنها تنتسب إليه؟!
ومر الأمر على الناس فى بلادنا، مثلما تمر أمور أخرى كثيرة، لا يهتم أحد بضبط دلالة مفرداتها أو الاندهاش من الخلط والتخليط المريع فى معانى الكلمات. وهذه على أى حال، ليست حالة فريدة وإنما هى المعتاد عموماً فى بلادنا التى صار أهلها كبغاث الطير، يتواصلون بالأصوات الصادحة وليس باللغة منضبطة الألفاظ، محددة المعانى المرتبطة بالمفردات.. فترانا نقول «الدعاة، الداعية» لمن يقوم بوعظ الناس، دون انتباه إلى أن الدعوة للإسلام لا تكون إلا فى مجتمع غير مسلم، أما داخل المجتمع الإسلامى فلا يصح أن يقال عن مثل هذا العمل «دعوة» لأنه ببساطة «وعظ». وترانا نكره كلمة «التبشير» ونعتبرها هجوماً على الإسلام، فى الوقت الذى نستعمل فيه كلمة «كرازة» ونكررها كثيراً، دون انتباه إلى أن الكلمة تعنى حرفياً: التبشير! وقد أردت لفت الأنظار إلى خطورة هذه الأمور، فى كتاب أصدرته قبل عدة سنوات تحت عنوان «كلمات، التقاط الألماس من كلام الناس» غير أن الأثر ظل محدوداً، مع أن الكتاب طبع عدة مرات، لأن الناس فى بلادنا قليلاً ما يسمعون، وإن سمعوا فهم عادة لا يتدبرون أو يهتمون بهذه الأمور التى يظنون أنها كماليات وترف ثقافى، مع أنها فيما أرى: أخطر الأخطار التى تواجه العرب الحاليين وتهددهم بالاندثار التام.
■ ■
لا يمكن بحال من الأحوال تسمية الاقتحام الداعشى المسلح لكردستان «فتحاً» لأنها بالفعل «مفتوحة» إسلامياً منذ بداية زمن الفتوحات قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. قد نسمى هذه الحروب الداعشية استهبالاً (بالمعنى الفصيح للكلمة: اغتنام الفرص) أو بلطجة (بالمعنى التركى للكلمة: حامل البلطة) أو إجراماً عتيداً (بالمعنى القانونى والإنسانى لهذه الكلمة) أو تنفيذاً لخطط دولية تشاركت فيها المصالح التركية والأمريكية والإيرانية لضمان إبقاء الكرد فى حالة التشظى، خشية قيامهم بتأسيس دولة تقتطع من العراق وسوريا الشمال، ومن تركيا الجنوب الشرقى، ومن إيران الشمال الغربى، ومن أمريكا فرصة النهب المنظم للنفط.. يمكن تسمية الحرب الداعشية بأى لفظ من هذه الألفاظ «الاستهبال، البلطجة، الإجرام» أما لفظ الفتح، فهو لا ينطبق من قريب أو بعيد.
بدأ «فتح» كردستان فى زمن الخليفة الثانى عمر بن الخطاب، وتم فى زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان (وبالمناسبة، فليس هناك بعد الخلفاء الأربعة للنبى، خلفاء، وإنما حكام توارثوا الحكم الذى صار ملكاً عضوضاً).. وكان سكان كردستان عند ظهور الإسلام يدينون فى معظمهم بالملة الأزيدية المستوحاة من الديانة الفارسية القديمة المعروفة باسم الزرادشتية (نسبة إلى زرادشت) التى تقوم على الاعتقاد بوجود قوتين أعظم: النور والظلام، يزدان وأهريمان، الله والشيطان.. وكان الكرد بحكم الجغرافيا يسكنون فى المنطقة الواقعة بين الفرس واليونان، وهى منطقة الصراع القديم الذى استمر قروناً وكان يجرى فى وقت ظهور الإسلام بين الفرس والروم (الرومان المتأخرون، البيزنطيون).
ومعروف أن دولة الإسلام المبكرة انتشرت على أنقاض دولتى فارس وبيزنطة، ومن هنا كان لا بد من سيطرة المسلمين على النواحى الكردية لتكون منطلقاً لهم نحو فارس، وتأميناً لهم من الجيش البيزنطى.. ولذلك أرسل الخليفة عمر بن الخطاب جيشاً بقيادة «عتبة بن فرقد» سنة عشرين هجرية، فقاتل أهل «نينوى» ودخلها عنوة، حسبما يقول البلاذرى فى كتابه «فتوح البلدان».. بينما دانت الأنحاء الكردية الأخرى لسلطة المسلمين صلحاً، وارتضوا دفع الجزية.
وامتدت الفتوحات الإسلامية فى زمن الخليفة عمر، فشملت المناطق الكردية (تكريت، كردى، المرج.. إلخ) ويقال إن القائد المسلم عياض بن غنم، هو الذى أتم فتح كردستان حتى وصل إلى «آمد» بيد أن الكرد ثاروا على سلطة المسلمين فبعث لهم الخليفة عثمان جيشاً بقيادة أبى موسى الأشعرى، فانطلق إلى الأنحاء الكردية فى البصرة، فأخضعها مجدداً وأعاد كردستان إلى نطاق الدولة الإسلامية الوليدة.
والمصادر التاريخية قليلاً ما يتحدث القديم منها عن فتح كردستان، إلا بشكل إجمالى، فلا نجد إلا شذرات قليلة عند البلاذرى وبعض المتأخرين عليه زمناً.. لكن هناك دراسة معاصرة قام بها الباحث والمؤرخ د. فرست مرعى، ونشرها بعنوان يفصح بوضوح عن محتواها: «الفتح الإسلامى لكردستان».. وفى هذا الكتاب ذى الفصول الأربعة، يستعرض المؤلف أصول الكرد وأحوالهم وقت دخول الإسلام ومعركة «جلولاء» التى دانت بعدها كردستان للمسلمين، ثم يؤكد الكتاب أن دخول الإسلام إلى كردستان لم يكن غزواً عسكرياً غشوماً، بقدر ما كان تحريراً للكرد من حالة الصراع السلطوى المرير التى طالما امتدت قبل مجىء المسلمين. وهو ينكر الادعاءات القائلة إن الكرد أجبروا على دخول الإسلام، من واقع انتمائه الإسلامى الذى طالما اعتز به الكرد الذين أسهموا خلال الزمن الإسلامى المديد إسهاماً ملحوظاً فى صياغة التراث العربى، على النحو الذى سنعرض له بشىء من التفصيل فى مقالة الأسبوع المقبل.. فإلى لقاء.

هناك 4 تعليقات:

  1. نشكر لكم ما تقدّمونه للتدوين العربي فكرا و حرفا
    و ندعوكم لزيارة موقعنا للمتابعة و التفاعل و مزيدا من التواصل
    https://sociopoliticarabsite.wordpress.com/
    وافر التقدير و المحبّة

    ردحذف
  2. نشكر لكم ما تقدّمونه للتدوين العربي فكرا و حرفا
    و ندعوكم لزيارة موقعنا للمتابعة و التفاعل و مزيدا من التواصل
    https://sociopoliticarabsite.wordpress.com/
    وافر التقدير و المحبّة

    ردحذف