الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

المرأة الكردية.. من تأليه الأنوثة إلى تدنيسها

فى غمرة الأهوال الداعشية التى انتشرت ونُشرت أخبارها على نطاق واسع خلال الأشهر الماضية، تناقلت وسائل الإعلام العالمية والعربية وقنوات التواصل الاجتماعى صورة مريعة لشاب داعشى مهووس يضحك كالمخبولين وهو يعلق فى إحدى يديه رأساً مقطوعاً لامرأة كردية حسناء الوجه، طويلة الضفائر، باسمة. وبيده الأخرى يرفع إصبع السبابة بعلامة التوحيد. وبالطبع أثارت الصورة الجالبة للهم كل مشاعر الاشمئزاز والتقزز والغم فى نفوس الناس شرقاً وغرباً. وجاءت فى تفسيرها وتفصيل خبرها أقاويل عديدة، منها أن الدواعش يسعون لنشر الرعب فى الأنحاء تمهيداً لاجتياحها دون مقاومة من أهلها «وهو الأسلوب الذى اتبعه المغول قديماً عند اجتياحهم لأنحاء العالم الإسلامى».. ومنها أن دولة الإسلام فى العراق والشام المسماة اختصاراً «داعش» تريد تحذير النساء بأنهن إذا لم يستسلمن للأسر والسبى وإدفاء فراش «المجاهدين» وتلبية شهواتهم الهمجية، فسوف يتعرضن لهذا المصير الشنيع البشع.. ومنها أن المرأة مقطوعة الرأس كانت إحدى المقاتلات الكرديات اللواتى يدافعن عن بلدة عين العرب «كوبانى» الكردية، المسلمة، السنية! ضد شراذم الدواعش المدعومين سراً من دولة الخلافة العثمانية الأردوغانية، والمدعومين جهراً من أمريكا التى تزعم أنها تقصفهم من السماء لتعطيهم الفرصة للتوسع على الأرض.. ومنها أن النساء الكرديات قد تعهدن بقتل أنفسهن إذا ما أحدق بهن الهم الداعشى، وأراد المجاهدون المسلمون فى سبيل الله «وسبيل النكاح» الاستيلاء على أجسادهن وبيعهن بسوق النخاسة.. ومنها أن الفتاة مقطوعة الرأس اسمها: ريحانة.
بعد ذلك بأيام، يعنى منذ بضعة أيام، جاءنا هم جديد من إيران، ملخصه أنهم أعدموا هناك فتاة اسمها «ريحانة جبارى» اعتدى عليها بالاغتصاب حيوان يعمل بالمخابرات الإيرانية، فقتلته. وقيل إن الفتاة المشنوقة من أهل السنة، والأرجح أنها كردية لأن لقب «الجبارى» هو اسم مشهور لعشيرة كردية يصل عددها إلى عدة ملايين، معظمهم يسكنون بالعراق حالياً وبعضهم فى غير العراق، وهم جميعاً ينتمون إلى جد واحد كان اسمه: عبدالجبار.
ومن هذا «الهم» نعود إلى «الهم» الأول، حيث اشتهر عن الكرديات المقاتلات المتصديات للدواعش هذه الأيام، أنهن لا يقعن فى الأسر. بمعنى أنهن يقاتلن حتى الرمق الأخير، ويفضلن الموت على الوقوع فى أيدى الدواعش، كيلا تهان الواحدة منهن ويستعمل جسدها فى الأسر «السبى» استعمالاً همجياً. بعبارة أخرى، تمتاز المرأة الكردية باعتداد شديد بأنوثتها يعوق قبولها بالخزى الذى ينتظر الأسيرات.. بعبارة أوضح: المرأة الكردية حرة.
فلماذا تمتاز المرأة الكردية بهذه الصفات؟ للإجابة عن ذلك علينا الرجوع إلى التاريخ، وملاحظة أثر الجغرافيا، والانتباه إلى طبيعة الخصوصية الثقافية للكرد: المسلمون، السنة.
■ ■ ■
باستثناء الكرد الذين اضطروا إلى الهجرة من موطنهم الأصلى، أعنى تلك المنطقة الشاسعة المعروفة باسم «كردستان»، فإن العشائر الكردية تقيم اليوم، مثلما كانت تقيم منذ زمن قديم، فى منطقة المرتفعات الجبلية والسهول الخضراء المحيطة بها. وسكان تلك الأماكن عموماً، من الكرد أو غيرهم، يمتازون بالميل إلى المحافظة لا الانفلات، والاعتزاز بالشرف لا التساهل فيه. على عكس سكان الصحراوات المجدبة والمدن الصاخبة المزدحمة، الذين لا يكترثون كثيراً بالنزوع المحافظ، وبقدسية الجسد، وبتمحور السلوك العام حول مفاهيم العزة والشرف. أو بتعبير أدق: غالباً ما يكون البدو الأقحاح وقاطنو المدن الكبيرة أكثر تساهلاً من نظرائهم الساكنين فى الجبال والمناطق الخضراء.. هذا من وجهة الجغرافيا، وانعكاسها على السلوك العام.
ومن ناحية التاريخ السحيق لمنطقة كردستان يؤكد الباحثون أن أسلاف الكرد كانوا يعيشون قبل آلاف السنين فى مجتمع أمومى يتمحور حول تقديس الأم العظيمة والأنوثة المؤلهة.. يقول د.جمال رشيد، فى الجزء الثانى من كتابه الموسوعى «ظهور الكورد فى التاريخ» ما نصه: لعبت المكانة الاجتماعية للمرأة فى كوردستان دوراً كبيراً فى رسم التصور الدينى وفى ولادة الأسطورة الأولى.. فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليب الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة تتبع دورة القمر، وخصبها هو خصب الطبيعة.. فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هى منشأ الأشياء، عنها تصدر الموجودات وإلى رحمها يؤول كل شىء.
ثم يشير الكاتب إلى أن المجتمع الكردى القديم، قبل آلاف الأعوام، كان يعبد الإلهة «شاووشكا» التى عرفت أيضاً باسم «نينى» وباسم «إنانا».. وقد سميت مدينة «نينوى» باسمها، مقابل مدينة أوروبيللوم «أربيل» التى كانت مركز عبادتها باسم «شاووشكا» التى عبدها أيضاً بهذا الاسم سكان مدينة شموخا، فى جنوب شرق «ديار بكر» الحالية «يقصد المنطقة الكردية الواقعة اليوم داخل حدود تركيا».
وبطبيعة الحال، فإن تأليه الأنوثة فى زمن تأسيس الحضارات، لم يقتصر على منطقة كردستان. فهذا ما رأيناه فى مهاد الحضارة الإنسانية جميعها: مصر، العراق، اليونان! قبل أن تقوم الجماعات الإنسانية الأحدث، تحت وطأة النزعات التوسعية العسكرية الغشوم بإزاحة الألوهة المؤنثة وإحلال الإله الذكر «رب الجنود» فى مكانها، على النحو الذى عرضت له فى روايتى: ظل الأفعى.
■ ■ ■
وقد استمرت النزعة الأمومية فى المجتمع الكردى خلال تطوره الطويل، وتحول تأليه الأنوثة إلى تقديس للمرأة وإعلاء لمكانتها. ولذلك، ظهرت فى تاريخ كردستان نساء قائدات قمن برئاسة وتوجيه العشائر الكردية، كان منهن: أرملة غلام شاه خان، نسوة أسر الهكارى «عشيرة كردية»، الحاكمات، عادلة خانم سيدة هلبجة، قرة فاطمة، التى قادت فرسانها واستولت على القسطنطينية سنة 1854 الميلادية.
وفى انعطافة حادة، دالة، يقول صاحب موسوعة «ظهور الكورد فى التاريخ»: إن انتشار مبادئ الإسلام فى المجتمع الكردى، أدى إلى تسرب بعض أعراف المجتمعات العربية إلى الكرد، لكن احتجاب المرأة أمام الرجل، كما أراد رجال الدين الإسلامى، لم يتحقق فى المجتمعات الكردية، ولذلك ظل الكرد من بين الشعوب الإسلامية هم الأكثر تسامحاً وتفتحاً تجاه المرأة، واحتراماً لحريتها الشخصية. وقد لاحظ الرحالة ما نلاحظه اليوم من سمات عامة للمرأة الكردية، فهى من حيث الشكل غير محجبة «لا ترتدى الحجاب ولا النقاب»، ومن حيث التفاعل الإنسانى غير محجوبة عن الرجال، ولا يفرض عليها ارتداء ملابس معينة وتشارك الرجال فى الحوار: «ومع كل الحرية التى تتمتع بها، فإنها تحافظ على شرفها بكل ما أوتيت من قوة، فالخوف المنتشر بين الأرمن وادعاء العفة المنتشر بين الأتراك العثمانيين، لا نجدهما عند الكورد».. ولم يتعرض الكاتب للمرأة العربية؛ لأن كتابه، فيما أظن، قد أعدت مادته أثناء حكم صدام حسين! وإن كان قد نشر بعد سقوطه عن حكم العراق بالطبع، لأن كتاباً عن الكرد فى زمن «صدام» كان سبباً كافياً لقتل مؤلفه.
وبعد إيراد بعض الشهادات التى قدمها الرحالة الأوروبيون وزوار كردستان خلال القرنين الماضيين «من أمثال: بيلابترو، مينورسكى، سون، رامبو، إدموندس» يأتى التأكيد على أن المرأة الكردية أكثر استقلالاً من أخواتها العربيات والتركيات والفارسيات.. يقول المؤلف: وللأسف، فإن سياسة حزب البعث اللا أخلاقية فى كوردستان الجنوبية، خلقت حالة مغايرة لطبيعة المجتمع النسوى، فدفعت بعض الكورديات إلى استعمال الحجاب، وهو القماش الذى كان يستر المرأة العبرية.. وهى الظاهرة التى لم تتعودها النساء الكورديات خلال التاريخ.
■ ■ ■
وختاماً، وحسبما تؤكد المشاهد الجارية الآن فى النواحى الكردية بالعراق وسوريا، فإن عمليات التدنيس لقداسة «الأنثى» لم تنجح تماماً فى طمس هويتها الراسخة عند الكرديات.. اللواتى يمثلن اليوم ثلث القوات المقاومة للتقدم الداعشى، اللواتى يحملن السلاح مستهينات بالموت فى سبيل الدفاع عن الأرض والعرض، اللواتى يفضلن الانتحار بالطلقة الأخيرة على الاستسلام للسبى والتدنيس الهمجى لمعنى الأنوثة على يد الدواعش الذين يستعملون الدين لتدمير الدنيا، والسماء لتخريب الأرض، والذكورة البكماء لطمس بهاء الأنوثة.

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا على هذه المعلومات القيمة التى اطلعتنا بيها دكتور عسى ان بقهموا الاخوة العرب ان يتركونا نعيش بسلام

    ردحذف