الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

التشويه المصرى لمفهوم: الثورة الثقافية

فى مقالة الأسبوع الماضى، تحدثنا عن "تشويه الثورة الثقافية" من خلال مثالين مشهورين فى زماننا المعاصر، هما الثورة الثقافية (المدمرة) فى الصين، التى قام بها "ماوتسى تون"، والثورة الثقافية (المريعة) التى قام بها فى إيران الإمام الخوميني. وكلتا الثورتين كانت مهلكة، مما أدى إلى تشويه المصطلح ذاته، فلم يعد تعبير (الثورة الثقافية) جذاباً فى أذهان الناس. 
وفى واقع الأمر، فما حدث فى الصين وإيران لم يكن أصلاً ثورة ثقافية، وإنما كان المضاد التام لها. لأن الثورة لا يقوم بها شخص أو مجموعة قليلة العدد، وإنما تقوم بها قاعدة عريضة من الناس استجابة لدعوة شخص أو مجموعة قليلة العدد. والثورة لا يقوم بها المستولى على السلطة، لأنها تقوم أساساً لإزاحة سلطة (سياسية أو اقتصادية أو فكرية) والسلطات يكون بينها تناغم خفي. وبالتالي، فإن المستولى على مقاليد السلطة السياسية بشكل ثوري، يخشى فقدان سلطته بسبب تطور المسار الثورى العام فى بلده، وانتقال الفكر الجمعى العام من حالة الثورة السياسية الهادفة إلى تغيير نظام الحكم، إلى حالة الثورة الثقافية المؤدية الى تغيير النظرة العامة أو مايسمى: رؤى العالم. والذى حدث فعلاً، هو أن ماوتسى تونج والإمام الخوميني، كلاهما، انتابه القلق من تحول الثورة وتطورها من الحيز الثقافى الضيق إلى المجال الثقافى الواسع. فقام كل منهما بتوجيه الأمر نحو صالحه الخاص، وصار يدعو هو للثورة فى ثوبها الجديد (الثقافي) ومراده الأساسى: إحكام قبضته السلطوية على المجتمع الذى يحكمه، بمقاومة الأفكار لا الأفعال. الرؤى العامة لا المظاهرات المعارضة. خواطر الناس وليس الأداء العام لهم. 
على ماسبق، فإن الثورتين الثقافيتين المزعومتين فى الصين وإيران، كانتا فى واقع الأمر نقيض المفهوم الحقيقى للثورة الثقافية، وإجهاض لخطوات التحول الثقافى اللازم بعد خمود الصخب الذى تحدثه الثورات السياسية. فما الذى حدث بمصر؟ وكيف تم تشويه مفهوم الثورة الثقافية؟ ومن الذين قاموا بذلك؟ 
بخصوص السؤال الأول، فإن حالة النشاط الثقافى المرتفعة (نسبياً) قبيل ثورة يناير، وهو الأمر الذى يدل عليه بوضوح أكثر من مؤشر فى هذه الفترة (ما بين مطلع الألفية إلى بدء اندلاع الثورة) منها: ارتفاع معدلات القراءة بشكل غير مسبوق، افتتاح عدة جامعات أوروبية لفروع لها فى مصر، الطفرة المعلوماتية ونشاط وسائل التفاعل على شبكة الانترنت، الكتابات المعارضة بقوة للحكومة وسياساتها. إلخ. 
وبعدما حدث الامتزاج الأولى المطلوب لإحداث الثورة، أعنى تمازج الثقافى بالسياسي، وبعدما حققت الثورة السياسية غرضها الأول (إسقاط النظام) والقضاء التام على فكرة توريث الحكم "الجمهوري". بدأت عملية التشويه المصرى (المنظم) للجانب الثقافى من الثورة، لتلافى التطور والانتقال الثورى من الجانب السياسى إلى الجانب الثقافي. لأن هذا يهدد مصالح كثير من الناس. الذين صار الحكم السياسى بأيدهم. 
وهنا يأتى السؤال الثاني، عن الكيفية التى تم بها تشويه الثورة الثقافية التى كانت مرتقبة، ومقلقة لمن بأيديهم مقاليد الأمور. ولنتذكر ما جري، أو على الأقل بعضه: فجأة، سطع نجم المشايخ المنسوبين إلى التيار السلفى (محمد حسان، حازم أبواسماعيل، وغيرهما) مع أن السلفيين كانوا متفاهمين على نحو ما، مع النظام الذى قامت الثورة بإسقاطه، ولن يكونوا يوما دعاة لأى ثورة. ولكن صار هؤلاء، فجأة، هم النجوم الذين يترددون على المجلس العسكرى (الحاكم) والساطعون فى البرامج التليفزيونية، والمؤثرون فى جمهور عريض من الناس. وفى الوقت ذاته، بدأت عملية الهجوم العام على "النخبة" دون تحديد دقيق لمن هم هؤلاء النخبة! مما أدى إلى هز ثقة الجمهور فى المفكرين والكتاب، لاسيما مع إزاحة الجادين منهم إلى خارج المشهد واعلاء شأن التافهين منهم والمتفاهمين مع السلطة الحاكمة. وهكذا بدا للناس أن ما هو (ديني) هو الخلاص، وما هو (ثقافي) لا قيمة له، فنجح "الاخوان" فى الوصول إلى الحكم، الى حين. 
والسؤال الثالث: من الذين قاموا بتشويه الجانب الثقافى من الثورة المصرية، لتلافى استمرار الحالة الثورية وتطورها من الجانب السياسى إلى الجانب الثقافي. أو بالأحري: الأمن الثقافي؟ الاجابة المباشرة عن هذا السؤال، هي: المجلس العسكرى وقادة الإخوان المسلمين. كيف؟ يخطيء من يظن أن الإخوان كانوا على خلاف مع نظام مبارك او وريثه الأول (المجلس العسكري) لأن هناك شواهد لا حصر لها تدل على ذلك، وقد أشرت إلى بعضها فى الصفحات الأخيرة من روايتى "محال" وصرحت ببعضها الآخر فى المقالات التى نشرت فى كتابي: فقه الثورة. 
فمن أراد مزيدا من الأدلة على تواطؤ الوريثين (المجلس العسكري، الاخوان) فعليه النظر بروية فى الآتي: التغييرات المتلاحقة والسريعة لوزراء الثقافة والحرص على اختيار "الودعاء" لهذا المنصب. الاهمال المتعمد للمؤسسات الثقافية الكبرى فى مصر، والحرص على إبقائها فى حالة اللاموت واللاحياة. إزاحة معظم الجادين من المفكرين والكتاب من المشهد العام، وتسريب سواقط الأعمال ذات الطابع الثقافى العام، لإلهاء الناس (الأفلام الهابطة، المهربون إعلاميا، المبتسمون دوما وهم يقولون العبارة الرخيصة: أنا متفائل. إلخ). 
وبهذا تحولت الثورة إلى ثورة، وتم استبعاد "الثقافة" التى هى السبيل الوحيد لتعميق الوعى العام، فكانت النتائج التى سنتحدث عنها الأسبوع المقبل. فى المقالة التى ستأتى بعنوان: "نتائج إجهاض الثورة الثقافية". وسوف نرى انها نتائج خطيرة، نعانى منها اليوم وسوف نعانى من المزيد منها مستقبلا.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق