الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

الكُرد.. اللغة المتحدية.. والهوية

فور نشر مقالة الأسبوع الماضى، التى كانت بعنوان «الأكراد، غموض النشأة والتباس أصل الناس» جاءتنى عدة تعليقات من مثقفين أكراد «كُرد»، فيها بالإضافة إلى الحماسة الشديدة لتأكيد أصولهم التاريخية العتيقة، إشارات «مفيدة» منها أن العرب أطلقوا على «الأكراد» هذا الاسم، قياساً على قولهم بالعربية «أعراب» للتمييز بين العربى والأعرابى، بحيث تصير صفة «الأعرابى» دالة على ساكن الصحراء الذى يعيش على الرعى.. فلما رأى العرب، حسبما قال أحد المعلقين على المقالة، أن هؤلاء القوم يشبهونهم ولديهم ماشية يرعونها فى السهول، سموهم «الأكراد» قياساً على «الأعراب».. مع أن الاسم الصحيح، بحسب اللغة الكردية، هو: الكورد «والمفرد: كوردى».
قلت فى نفسى، ساعتها، إنه لا بأس من تجاوز هذه النقطة الخلافية بحل بسيط هو استعمال اسم الكُرد «المفرد: كُردى» بضم الكاف، وتحاشى لفظ «أكراد» الذى يغيظ الكُرد من العرب! على الأقل، فى هذه الفترة الحالية، الحالكة، التى يتعرض فيها الكُرد للإبادة على يد العرب والأتراك والفرس «الإيرانيين»، سواءً بالذبح الداعشى، ومن قبله بقنابل الغاز الصدامية «استعمل صدام حسين ضد أكراد العراق كل الأسلحة المحرمة دولياً» أو بالاضطهاد التركى الذى لم يهدأ منذ أيام كمال أتاتورك إلى أيام «أردوغان» الذى يتزعم النزعة الإسلامية ولا يجد أى غضاضة فى إبادة الكُرد، أو على الأقل قهرهم.. «بالمناسبة، يوم كان أردوغان فى القاهرة ضيفاً على حكامها من الإخوان المسلمين، ومتحدثاً بفضائل الإسلام أمام وسائل الإعلام، كان الطيران التركى يشن غارات عسكرية قاسية على منطقة ديار بكر التركية/ الكردية، فى اللحظة نفسها التى كان أردوغان يلقى فيها خطابه الإسلامى! كأن الكُرد ليسوا مسلمين».
من هنا قلت فى نفسى، إن هؤلاء يكفيهم ما فيهم وما مروا به من مآسٍ مروعة، فلا بأس من مراعاة هذه المسألة اللفظية اليسيرة، بتسميتهم «الكُرد» المطابقة لفظاً لكلمة «كورد» التى يحبون أن يسموا أنفسهم بها. وهذا ليس من باب «جبر الخاطر» مع أن «خاطر» الكُرد يحتاج جبراً، بل ويستلزم اعتذاراً من العرب على ما فعلوه بالكُرد طيلة القرون الماضية، ويفعلونه الآن. ولنكف عن ترديد هذه العبارة الرقيعة الجوفاء «داعش لا تمثل العرب ولا الإسلام»، لأنها عبارة لا معنى لها، إذ إن الدواعش فى نهاية المطاف عرب ومسلمون، مهما تنصل منهم العرب والمسلمون. إن تمسية «الكُرد» بذلك المسمى، هى الأفصح لغة والأصوب اشتقاقاً، لأننا نقول عن المفرد كُردى وليس أكرادياً، وكردية وليست أكرادية.. ونقول كردستان لا أكرادستان!
■ ■
وما سبق، يقودنا إلى الكلام عن اللغة الكردية. وقد ختمت مقالة الأسبوع الماضى بمختارات من قصيدة لمحمود درويش أهداها إلىَّ الكاتب الكُردى سليم بركات وأشار السطر الأول منها إلى المآسى الكردية الحالية، التى تنبأ بها الشاعر «الفلسطينى» حين قال: «يتذكر الكُردى، حين أزوره، غده.. » وهو سطر شعرى منضبط على القاعدة العروضية «العروض هو معيار الشعر» وعلى تفعيلة بحر الكامل «أحد أهم وأشهر بحور الشعر العربية» ويمكن صياغته عروضاً كالتالى: متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن، فعل (يتذكر ال، الكُردى حى، ن أزوره، غده».
فإذا أعدنا ترتيب الكلمات، بعيداً عن الإيقاع العروضى، كانت دالة بشكل أوضح على نبوءة الشاعر: حين أزور الكُردى، يتذكر غده! أو بقول أوضح: حين يرانى الكُردى، وأنا الفلسطينى صاحب المأساة، يتذكر مآسيه التى مرت، والتى ستقع غداً.. (ويلى ذلك فى القصيدة، قول الشاعر: فيزيحه بمكنسة الغبار! يعنى يطرده عن ذهنه).
وفى السطر الأخير من القصيدة، يقول الشاعر أو هو بالأحرى يقول فى نهايتها: «باللغة انتصرت على الهوية، قلت للكُردى: باللغة انتقمتَ من الغياب، فقال: لن أمضى إلى الصحراء، قلت: ولا أنا، ونظرت نحو الريح. عمت مساءً، عمت مساءً.. ولسوف نفهم هذه المفردات الشعرية، ودلالتها العميقة، فى ضوء ما سيأتى من هذه المقالة فيما يلى.
■ ■
يتوزع الكُرد اليوم على عدة بلاد طالما سعت لطمس هويتهم الحضارية والحاضرة: تركيا التى تتحدث التركية، وإيران التى تتحدث الفارسية، والعراق وسوريا اللتان تتحدثان العربية.. والكُرد فى الشتات، موزعون على بلاد الشرق والغرب، التى تتحدث لغات مختلفة.
ويتوزع النزوع السياسى للكُرد على عدة أحزاب وقوى سياسية، بعضها معادٍ لبعضها الآخر، وكثير منها مدعوم من الدول التى لا وفاق بينها، أو بينها حرب: العراق وإيران، سوريا والعراق، تركيا وسوريا، تركيا وإيران.. لكن هذه الدول على خلافها واختلافها المرير، يجمعها هم واحد يسعون إليه سعياً شديداً: قمع الكُرد أو تهجيرهم أو الخلاص نهائياً منهم بحرب إبادة كتلك التى تقوم بها داعش اليوم.
ما الذى يجمع الكُرد، إذن؟ بالطبع يجمع بينهم البؤس العام والظلم الشديد، لكن هذا لا يكفى لتحديد إطار «الهوية» الكردية.. وبالطبع، يجمع بينهم أنهم يسكنون منطقة متصلة جغرافياً اسمها فى الأذهان: كردستان، لكن هذا الاتصال الجغرافى مقطوع بحدود سياسية رسمها على الورق أصحاب المصالح الكبرى، ومات بسبب هذا الرسم المسمى «الحدود» ما لا حصر له من الناس.. وبالطبع، يجمع بين الكُرد التاريخ المديد، المشترك، لكن التواريخ يكتبها الأقوياء لا أصحاب الحق، والمنتصرون المسيطرون على مقاليد السلطة السياسية، لا أهل المعاناة من عسف المنتصرين المسيطرين على مقاليد السلطة السياسية! فما الذى يجمع الكُرد، إذن؟.
إن الرابط الأول الداعم للهوية الكردية، هو اللغة. فاللغة هى مستند الهوية، الأهم، للكُرد ولغير الكُرد من الأمم، حتى لو غفل أفراد هذه الأمة أو تلك عن خطورة هذا «الرابط» الأول والشرط الأهم فى تحديد الشخصية العامة «الهوية» للجماعة. فاللغة هى «الرحم» الأساسى الذى يتوالد منه الناس ويتوارثونه، وقد توهم الشاعر ولعبت به الظنون والأمنيات حين قال: «والأرض تورث كاللغة».. لأن اللغة متوارثة من دون شك، والشك كل الشك فى «وراثة الأرض» والحيز المكانى والوحدة السياسية. الناس ترث اللغة جيلاً بعد جيل، بشكل تلقائى لا افتعال فيه، أما الأرض فقد يتم تهجيرهم منها أو تقسيمها وفقاً لمصالح الأقوياء، أو تباع بين الأفراد وتتم المساومة عليها بين الدول. الأرض ربما تورث وربما لا تورث، أما اللغة فهى لا محالة موروثة ومتوارثة بين الأجيال، اللهم إلا إذا كان أهلها من العته والسفاهة، بحيث يهجرون لغتهم طواعية، على النحو الذى نراه اليوم فى كثير من العرب المعاصرين الذين إذا أرادوا إظهار الرقى استعملوا الإنجليزية! وهم لا يعلمون أنهم فى واقع الأمر يظهرون الخيبة.
والكُرد متمسكون جداً بلغتهم، مع أنهم يخضعون لحصار ثقافى مريع من العرب والفرس والأتراك، وفى معظم الأنحاء لا يُعترف باللغة الكردية لغة رسمية، ولا يبذل أى جهد من أجل المحافظة عليها (على العكس، تبذل جهود مضنية لطمسها).. غير أن الكُردى يعرف أن الرابط الأول بين أهله المتوزعين على البلاد، المتعرضين لعمليات الإبادة المنظمة والطمس المريع، هو رابط اللغة. فى العراق وفى سوريا اللغة العربية هى «الهوية» العامة، وكذلك الحال فى إيران الفارسية، والأناضول التركية.. وباللغة، انتصر الكُردى على الهوية المستعارة فى المواطن التى يعيش فيها، وباللغة انتقم من الغياب ومن التغيب المتعمد لهويته الأصلية، وباللغة استعصى على الذوبان فى لسان الآخرين، خصوصاً العرب، فقرر أنه لن يمضى إلى الصحراء!
واللغة الكردية لها اليوم لهجتان معروفتان، وفور حصول الكُرد فى العراق على شىء من الاستقلالية بعد إسقاط صدام حسين، سارعوا إلى الاهتمام بنشر اللغة الكردية والاهتمام بها والترجمة إليها (ومن اللطائف، أن أول لغة ترجمت إليها رواية عزازيل المترجمة الآن إلى أكثر من عشرين لغة عالمية، كانت اللغة الكردية!).. كما يقوم الكُرد حالياً، أو كانوا يقومون قبل قيام الدواعش عليهم، باستعمال كل السبل المؤدية إلى ازدهار لغتهم بعد طول تغييب، أعنى تلك السبل والوسائل المعاصرة مثل: القنوات التليفزيونية الفضائية، شبكات التواصل الاجتماعى على الإنترنت، وسائط نقل المعلومات. وغير ذلك.
ومؤرخو الكُرد (الكورد) يعودون بأصل لغتهم إلى الزمن السومرى العتيق، والكتابة المسمارية الغابرة (على ألواح الطين)، ويفتشون عن المسار الذى تطورت خلاله اللغة الكردية عبر لغات مندثرة كالحورية والخلدية، الآرامية (السريانية) التى وردت بها أولى الإشارات إلى: بيث قردو.. أى «كردستان».
وفى مقالاتنا المقبلة، الباقية فى هذه السباعية، سوف نتوقف عند عدة موضوعات، منها عقائد الكُرد عبر التاريخ، ومآسيهم، وأحوال بلادهم.. وفى خلال ذلك كله، سوف نلقى مزيداً من الضوء على نشأة اللغة الكردية وتطورها وسر استمساك الكُرد المعاصرين بها، باعتبارها «كما قال الشاعر» انتصاراً على الغياب.
فإلى لقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق