الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

تشويه مصطلح «الثورة الثقافية»

تحدثنا فى مقالة الاسبوع الماضى عن «مفهوم الثورة الثقافية» فوردت الاشارة إلى أن الثورات السياسية لاتخلو من ملامح ثقافية، منها اختلاف طريقة التفكير العام. ومنها أيضا،
 إسقاط السلطة البطريركية (بالمعنى الأصلى للكلمة)، لا الكنسى تحديدا، سلطة الأب الأعلى فوق الآباء، ومنها إعلاء شعار الحرية على ما عداه من شعارات سابقة، مستهلكة، مثل: أنا أو الفوضى، دولة القانون، الانحياز لخيار السلام، إلى آخر هذه العبارات الجوفاء التى طالما سمعناها أيام مبارك، ولاكها الاعلام حتى اهترأت فصارت مع التكرار مستهلكة ومهلكة لأصحابها.
وبعد هذا التداخل فى البدايات، تفترق الثورتان (الثقافية والسياسية) فى المسار. إذ تتوجه الثورات السياسية مباشرة» إلى (السلطة) وتسعى إلى تغييرها بشكل راديكالى. أى جذرى ومباشر. بينما تهدف الثورة الثقافية إلى إعادة بناء التصورات العامة فى المجتمع، وتقود أفراده إلى غاية أبعد من التقلبات السياسية، وأرسخ، هى دفع العقل الجمعى إلى التفكير بشكل جديد. يختلف عن الشكل القديم العقيم الذى أدى إلى تدهور الأوضاع حتى وجبت الثورة عليها.

ومع أن الثورة الثقافية: أهم من مثيلتها السياسية، بكثير، إلا أنها أصعب أيضا بكثير. فمن اليسير تهييج الناس وإثارة حفيظتهم ضد حاكم معين، بالحق أو بالاعلام، ومن السهل حشد الجماهير بتحريك عواطفهم وحماستهم وميلهم الفطرى للصخب، ولكن ليس من اليسير أو السهل، الارتقاء بالوعى الجماعى وتعديل طريقة التفكير العمومية فى المجتمع، ودفع الناس للاستمساك بعقل جديد لعالم جديد. أو بالأحرى، إثارة حماستهم لاستكشاف طرق للتفكير والقهر، تناسب حالات التحول المجتمعى العام.

ومن أهم معوقات الثورة الثقافية، ووسائل الالتفاف عليها، تشويه دلالة هذا المصطلح وربطه بخبرات سيئة فى حياة الشعوب، بما يكفى لصرف الأذهان عن التفكير أو الشروع فى ثورات ثقافية. وسوف يسأل سائل: ولماذا يتم إعاقة الثورات الثقافية، ولماذا يتم الالتفاف عليها؟ وقد يضيف هذا السائل المفترض: من صاحب المصلحة فى هذا التعويق وتلك الالتفافات؟.. والإجابة: لأن الثورة الثقافية تطيح بمصالح كثيرين، ممن ارتبط وجودهم العام بالنظام الثقافى القديم. وهم كثيرون جدا، ومن مصلحتهم أن يبقى الحال على ماهو عليه، حتى يظلوا على ماهم عليه من مكانة مجتمعية سوف تقوم الثورة الثقافية بإزاحتها عن عقول الناس بمكنسة المنطق والرؤى المستقبلية. فإذا كانت الثورة السياسية تهدف إلى إسقاط حاكم فاسد، أو غير صالح للحكم، فالثورة الثقافية تقوم بتغيير أنظمة كاملة يرتزق منها كثيرون: الكهنة، الدعاة، المتسلقون، المحترفون لسبل الالتفاف حول القانون.

ولأن الثورة الثقافية تدعو للتفكير على نحو مختلف، يتسم بالمنطق والعقلانية، فمن الطبيعى أن تكون خطرا على الكهانة والذين يرتزقون منها، ومن الطبيعى أن تزيح الذين يدعون المدعوين!

إذ ما معنى «الدعوة إلى الاسلام» فى مجتمع مسلم، والتبشير «الكرازة» فى الكنيسة نفسها؟ وكذلك حال المتسلقين ومحترفى الالتفاف، الذين يتعيشون بالسير فى الدهاليز، فهؤلاء ممن تقضى الثور ة الثقافية على المسارب العطنة التى يجوسون فيها.

نأتى، من بعد هذه التمهيدات، إلى طرق تشويه الثورة الثقافية، وأولها تشويه المصطلح.. وهنا. نجد الناس وقد زرع الاعلام فى أذهانهم، أن الثورة الثقافية هى ما جرى فى الصين على يد الزعيم الشيوعى «ماو تسى تونج» وما جرى فى ايران على يد الامام الشيعى «الخومينى» ومن كانوا معه من رجال الدين المعروفين باسم: الملالى.

وهكذا ترتبط الثورات الثقافية، بعكس ماهو ثورات ثقافية!.. كيف؟ لننظر فيما جرى بالصين، لنرى كيف كان المضاد التام للثورة الثقافية. فى العام 1966 بدأت فى تاريخ الصين الحركة التى سميت «الثورة الثقافية» حين أعلن ماوتسى تونج عن حركة فكرية ضد الأفكار القديمة التى يمثلها الحكيم الصينى القديم «كونفشيوس» لكن هذا الزعم العريض لم يكن هو الحقيقة.. فقد كان «ماو» يشكو من أنهم فى الصين، بحسب تعبيره الذى همس به للمثقف الفرنسى والوزير الشهير أنديه مالرو: ما عادوا يسمعون كلامي (راجع نص الحوار، والمقابلة بينهما، فى كتاب أندريه مالرو: اللا مذكرات).

ولكى «يسمع الصينيون كلامه» أعلن «ماو» ثورته فى السنة المذكورة قبل قليل، وكان غرضه الأصلى هو القضاء على كل الذين يعارضونه، ممن كان يسميهم «ممثلى البرجوازية» وهم فى واقع الأمر رجال المرحلة السابقة عليه، الذين نسمى أمثالهم فى مصر: فلول الحزب الوطنى (وهى تسمية عبثية تعيسة» أو يسمونهم اليوم فى ليبيا: أزلام القذافى (وهى تسمية أكثر عبثية وتعاسة).. وتحت راية الثورة الثقافية، قام «ماو» ورجاله بتعذيب ملايين الناس، وقتل مئات الألوف، حتى وقفت الصين على شفا حرب أهلية سنة 1968، وجعلتها تتخلف عن دورها العالمى حتى فى المناطق القريبة منها، فلم نستطع مساعدة فيتنام التى انتهكها الأمريكيون علانية، ولم تستطع المشاركة فى صياغة السياسة الدولية فى تلك الفترة.. وبعد وفاة «ماو» بقليل، ولأنه كان شخصا شبه «مقدس»، فقد حوسب غيره على آثار الدمار الذى تم تحت زعم الثورة الثقافية، وحوكم الأفراد المعروفون آنذاك باسم (عصابة الأربعة) وكان منهم أرملة الزعيم!

وعلى النسق ذاته، وتحت زعم الثورة الثقافية قتل الخومينى ورجاله عشرات الآلاف من صفوة المجتمع الايرانى، ولما كثر الفتك والقتل قيل للملالى وآيات الله: صار القتلى كثيرين جدا! فجاء الرد القاطع (العجيب) على لسان آية الله خلخالى، الذى كان مسئولا عن المحاكمات الثورية: إن كان هؤلاء القتلى هم المذنبون فقد نالوا عقابهم، وإن كانوا أبرياء فسوف يدخلون الجنة.

لهذا الكلام بقية والأسبوع القادم، ستكون المقالة عن الكيفية التى تم بها تشويه الثورة الثقافية فى مصر، وإعاقتها.. فإلى لقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق