حوائطُ البيوت تحوى ما لا حصر له من أسرارٍ لا كاشف لها إلا الإسرار.. مثلما يفعل كل يومين أو ثلاثة، تأنق «سمير» فى ملبسه عقب صلاة المغرب، وبلا اكتراثٍ قال لزوجته العُرفية التى اختارت لنفسها اسم «ديانا» إنه سيقضى كالمعتاد وقتاً مع أصحابه، عند أحد أصحابه، وقد يتأخّر. خرج مسرعاً وأغلق بهدوءٍ باب بيته، من دون أن ينتظر منها الردَّ كى لا يشجِّعها على أىِّ طلبٍ أو قول. لم تكن تنوى الردَّ أصلاً، ولم يكن فيما فعله أية مفاجأة غير متوقَّعة بالنسبة لها.
المصدر: الوطن
■ ■
«ديانا»، هو الاسم المناسب الذى اختارته «دُنيا» لنفسها منذ سنواتٍ بعيدةٍ وحافلةٍ، بلغت الآن قرابة العشرين عاماً، وبه تخلَّصت من اسمها الأول الذى لم تحتمل استماعه، لا سيما من بعد وفاة والدتها التى ماتت فجأةً بعد شهرين من دخولها الجامعة.. فى الصيف الذى عرفت فيه «دنيا» أنها سوف تلتحق بكلية التجارة، عرضتْ عليها جارتها المرحة اللعوب «بسمة» عملاً فى مركز التجميل القريب من ميدان ابن سندر، أيامها تخوَّفت أمها قليلاً من هذا العرض المغرى ثم وافقت عليه، فكان هو المنعطف الذى انتقلت خلاله «دُنيا» بسرعةٍ، من فتاةٍ تعيش فى هامش القاهرة على هامش الحياة، إلى فتاةٍ فاتنة تفهم كيف يمكن للمرأة أن تكون جميلةً وشهيةً. بإبراز الأجمل منها، وبدحرجة العينين إذا حادثت الرجال، وبانفراجة الشفتين عند الاستماع إليهم، وباستعمال ضحكةٍ ساحرة معهم عند الحاجة لجذبهم، وبترخيم نبرة الصوت إذا لزم الأمر.. وقد اقتضى إتقانها ذلك فترة.
قبل التحاقها بالسنة الجامعية الأولى، قررتْ تغيير اسمها القديم لأنها تأكدت من أنه أسخف الأسماء، أو هو بحسب همسها لنفسها: «اسم بلدى قوى».. صاحبتها «بسمة» كانت تواسيها بأن اسمها بُشرى بالزواج ودخول الدنيا، لكنها لم تؤمن بتلك النبوءات البائسة، وكانت تدرك أن أمها المسكينة لو لم تكن من بسطاء الناس الذين نزحوا من قلب الريف إلى أطراف العاصمة، لما كانت قد اختارت لها هذا الاسم الفلاَّحى «دُنيا»، ولكانت قد ألصقتها باسمٍ يناسب حياتها القاهرية المقبلة.. مساكين أهل الريف الملحقون بالمدن، يريدون تأكيد هويتهم بتسمية أبنائهم وبناتهم، وبما يطبخون.
فى هاتيك الأيام، كانت أخبار الأميرة الأوروبية «ديانا» وصورها تملأ الأعين والأسماع وأحلام البنات. وفى يومها الجامعى الأول كانت «دُنيا» قد عقدت العزم على تغيير اسمها؛ فهى على أعتاب عالم جديد يحتاج اسماً جديداً، وكانت من قبل ذهابها لعالمها الجديد قد هامستْ نفسها: سأقول لمن يسألنى: إن اسمى «ديانا» لكنه مكتوب فى شهادة ميلادى «دنيا»؛ لأن موظف السجل المدنى لم يكن معتاداً على الاسم الذى اختاره أهلى لى، أو ربما كان جاهلاً فكتب الاسم بغير قصدٍ، بطريقةٍ خاطئةٍ. ولحظتها لم ينتبه أهلى للخطأ لأنهم كانوا فرحين بمولدى، ومُتعجلين، للاحتفال بالسبوع. أنا أكبر إخوتى. المهم يعنى، بقى الاسم فى الأوراق الرسمية «دُنيا» لكن اسمى «ديانا».. لن أحكى ذلك لأى ولد بالجامعة أو بنت إلا فى اللقاء الثانى وما بعده، ليكون اسم «ديانا» قد استقر فى رأسه وسمعه. نعم، «ديانا» هو اسمى الأنسب والأجمل.
■ ■
قبل انتظامها بالسنة الجامعية الثانية، كانت «ديانا» قد صارت بفعل التجميل متميزةً، وبما تكسبه من مركز التجميل أنيقةً، وبما تحلم به غيرَ متآلفةٍ مع زميلات الدراسة والزملاء. فاتخذت آنذاك سبيلها إلى المقاهى، سرباً، لا سيما أنها عشقت الشيشة.. وقبل انتظامها بالسنة الجامعية الثالثة، ملَّت حياتها المنزلية البائسة وبيتها الحقير الملتصق بالناحية المسماة «المناشى»، وشاءت أن تستعمل سلاحها الوحيد بإتقان، لتكون ناجحة. صاحبت المعيدين ومنحتهم شيئاً من دلالها، فنجحت فى نهاية العام الدراسى بتقدير جيد.. مع أنها بالكاد ذاكرت، وبالكاد منحت.
قبل انتظامها بالسنة الجامعية الأخيرة، كانت قد ألقت بعذريتها فى نهر الصخب القاهرى، وعرفت طريقها. واتتها فى أسبوع الدراسة الأول فكرةٌ جامحة، لم تتردَّد فى تنفيذها: المعيدون عيال، وتافهون، الأهمّ منهم الدكاترة الذين بيدهم الحل والعقد، وعددهم هذا العام سبعة.. وهو عدد غير كبير.
خلال ذاك العام الجامعى، النهائى، أقامت علاقاتٍ سرية، متفاوتة العمق، مع ستة من الأساتذة؛ لأن السابع كان مُعقّداً نفسياً، ولديه مشكلة مع الجمال. هكذا وصفته، وهكذا نالت الشهادة النهائية بتقدير عام «جيد جداً».. وكان أكثر عشاقها تفاهةً يريدها أن تصير «معيدة» معه فى القسم الذى سيترأسه بعد عامين، لكن التقدير العام لم يكن يكفيها وكانت لديها خُطط أخرى.
فور تخرُّجها، كان التجميل قد وصل بمحاسنها الحسية إلى الغاية القصوى، وكانت نظرتها للحياة قد صارت أحدَّ وأوضح.. فى جوف ليلةٍ انقطعت فيها الكهرباء، قررت ترك البيت التعيس والسكن بقلب القاهرة، وقدَّرتْ أن الأمر لن يستغرق إلا شهور ذاك الصيف. لكنها لم تستطِع ذلك إلا بعد عامٍ كامل من حصولها على الوظيفة المريحة، بالحيل المريحة للرجال الأكبر منها سنّاً؛ فهم الأعلى مقاماً، والأكثر نفوذاً وحفاظاً على الإناث اللواتى يتيسَّر لهم اقتناؤهن.. فما بالك بها وأنوثتها فياضةٌ بلا جهد منها وبلا حدود؟!
بهذا النهج، ارتقت «الأستاذة ديانا» من سكرتيرة بشركة بائسة إلى سكرتيرة بشركة شهيرة، إلى سكرتيرة بشركة أجنبية، إلى سكرتيرة خاصة جداً للمدير العام، وصاحبة له.. وبهذا المسار ارتقت اجتماعياً بين الذين يعرفونها، ولا يعرفونها.
«الهدايا مهمة، وزيادات المرتب، لكننى أحتاج أكثر من ذلك وأهم». حدّثتْ نفسها أياماً بذلك، وأسرَّت لنفسها النجوى وهى تبوح لذاتها بالأمانى وتُقدِّر القُدرات، ثم رتَّبت الأولويات: تغيير اسمى من «ديانا» إلى ما هو أنسب للفترة المقبلة؛ فيكون مثلاً «مدام دودو».. ولا بد لها من امتلاك سيارة خاصة، لا بأس فى أن تكون بالبداية رخيصة أو ممكنة الشراء، ثم تترقَّى من بعد ذلك فى الموديلات والأسعار الأعلى.. ولا بد لى من مالٍ يُكتنز فيحقِّق الشعور بالأمان.
ما كان للمطلب الأول أن يتم إلا بزيجةٍ رسمية، مهما كانت متواضعة. ومن هنا تزوَّجت الشاب الأسمر اليابس، البائس، الذى يعمل فى استوديو التصوير، وهو الذى التقط لها أيامها تلك الصور الفوتوغرافية الساحرة لأعين الناظرين من الرجال، والمثيرة لغيظ الناظرات من النساء، لا سيما الخليعات منهنَّ. كان هذا الولد الذى اختارته أصغر منها سنّاً بقليل، وأطول، وأطوع لها على السيطرة. فصارت وهى معه المستولية، نافذة المشيئة، سيدةُ الشقة الضيقة التى استأجراها، أو بالأحرى استأجرتها هى لهما بوسط القاهرة.. استمر زواجهما الرسمى هذا عامين، رأت أنهما مدةٌ كافيةٌ لنقلها إلى المستوى المطلوب تحقيقه اجتماعياً، وتجعلها خليقةً باسمها المراد أيامها تعميمه: «مدام دودو».
«لا زيجات رسمية بعد هذه؛ فلا يصح أن يقال إننى تزوَّجت عدة مرات، والعرفى من الزواج يحقق المراد منه، ويُنسى بعد حين فلا يُحسب». أسرَّت لنفسها بذلك، وتدبَّرت الأمور المحيطة.. وفى السنوات الثلاث التالية تزوَّجت عُرفياً عدة مرات، بسبب ظروف الرجال الذين أحبُّوها وأرادوا منها أكثر من العلاقات العابرة، وأرادت منهم ما يمكنها الحصول عليه.. صار الذين يعرفونها يعرفون أنها لا تُقيم علاقات غير شرعية، مع أنها تُقيم. ولا ترتبط بأكثر من رجلٍ فى الفترة نفسها، مع أنها ترتبط. ولا تطلب من الحياة إلا أن تعيش فى سلامٍ نفسى، مع أنها تطلب.
■ ■
بعد عبورها عتبة الثلاثين من عمرها، شعرت «دودو» بأخطارٍ كثيرة تُحدق بها، أولها أن جمالها صار معتاداً؛ لأن الإناث اللواتى حولها عرفن الطريق إلى مراكز التجميل، وأدركن الأسرار. كما أن وزنها ازداد قليلاً فترهَّلت بعض الشىء حواف بطنها، وما تحتها، وهذا عندها خطير. وآخرها أن بعض الرجال الذين استهدفتهم ما كانوا يكترثون كثيراً بالإشارات الموحية واللمحات الصيَّادة؛ لأنهم لا يريدون بذل مجهودٍ وفيرٍ فلا يبذلون لأهوائهم مما أعطاهم الله. وهذا محبطٌ. وما بين أول هذه الهواجس وآخرها، كان الحنين المكبوت للإنجاب يعصف بها، وتنكره، وتسوق لصاحباتها الحجج: يجب ألا نفكر فى الأولاد إلا إذا تيسَّرت لنا الظروف المناسبة لرعايتهم! لن أجنى على طفلٍ أُنجبه لأُلقى به فى هذا العالم المضطرب كثير الفساد! لا رغبة عندى فى مزيدٍ من المسئوليات، وليس من السهل إسعاد طفل فى زمن بائس.. وظلَّت لعدة سنواتٍ تالية تلوك تلك الأكاذيب المنمّقة.
■ ■
صبيحةَ عيد ميلادها الرابع والثلاثين، كانت تتأمل فى مرآتها التجاعيد التى تغزو وجهها قبل الأوان.. لحظتها شعرت بفزعٍ خفى، وقلقٍ زاد من مقداره خوفُها مما يجرى فى البلاد من هياجٍ، ومبيتٍ فى الميادين، وانعدامٍ للأمان؛ لأن أحرار الناس آنذاك نفد صبرهم، وصاروا مُصمّمين على خلع الضرس السلطوى المتسوِّس. السياسة لم تكن يوماً تهمها، لكنها يومها رأت فى المساء شباباً فى الشوارع يموتون، وهم متحمسون. ليلتها ابتأست، ونسيت نفسها حيناً، وأحبَّتْ بلادها.. وفى الأيام التالية، توسَّلت السبل وسألت معارفها وعرفت طريقها إلى السامر المنصوب فى ميدان التحرير، وهى ترسم على خدَّيها علم البلاد. كانت أياماً مجيدة، سرعان ما انحسرت.
خلال العامين الهائجين التاليين، ارتبطت «دودو» برجلين، الأول شابٌ ثائرٌ يكبرها بثلاثة أعوامٍ، متعلمٌ تعليماً عالياً، لكنه لا يشبه بقية المعيدين والحاصلين على الدكتوراه الذين رأتهم سابقاً فى الجامعة، اسمه «سعد». والآخر رجلٌ موسرٌ يكبرها بعشرين عاماً، عنده شركة لتطوير مهارات الموظفين، ولا يؤمن بالثورات، اسمه «سمير»، ويناديه العاملون فى شركته بلقب «الأستاذ».. أحبَّت «دودو» الاثنين، وأحبَّاها، وعرفت طريقها إليهما من دون أن يعلم أحدهما بوجود الآخر. وكان ذلك بالنسبة لها عبئاً كبيراً، كان من الممكن أن تستريح منه، لو كان بالإمكان تحقيق حلمها الذى لا تجرؤ على التعبير عنه، ولو بالمزاح: أن تتزوَّج الاثنين معاً.
عندما باح لها «سعد» بأنه يميل إلى تلك الفتاة الملحدة «سمية»، تركته من فورها فصار نسياً منسياً، واستثمرت وقتها ومفاتنها الآيلة للغياب فى علاقتها الأخرى. وبكل الحسم والعزم ألقت الشِّباك، وتفنّنت فى إبداء الوفاء، حتى استطاعت أن تتزوَّج رجلها الآخر «سمير» عرفياً.
الأيامُ تلعبُ بالناس.. خلال الأشهر الماضية، أنالت المُخاتلة آخر أزواجها كل مفاتنها وفنونها. واستنفدت أيامها كل مخزون صبرها. كان يريد منها اللحظات الخلوية المؤقتة، وكانت تريد منه شراء شقة لها والسماح لها بالإنجاب وإهداءها سيارة لا بأس فى أن تكون بالبداية رخيصة أو ممكنة الشراء ثم تترقَّى من بعد ذلك فى الموديلات والأسعار الأعلى، لكن «سمير» ظل يخايلها بالهدايا محدودة الأثمان، ولا يطلق يدها فى أمواله لأنه يخشى من أم أولاده، ومن أولاده. وهو يخاتلها بالمكشوف من حيل الرجال مع النساء، مثل خروجه قبل قليل زاعماً أنه سيقضى كالمعتاد وقتاً مع أصحابه، عند أحد أصحابه، وقد يتأخر.. لعله لا يعرف أنها تعرف بعلاقته الجديدة بالبنت الجربوعة التى عرفها قبل أسابيع، واستأجر لها فى بداية هذا الشهر شقة بحدائق الأهرام. وهو بالقطع لا يعرف أن شريكه فى الشركة «خالد خلوصى» ينقل منذ فترةٍ أخباره لزوجته العُرفية «دودو» المثيرة لخيال الرجال، أملاً فى أن يشاركه يوماً فيها أو ينال منها أىَّ نيل.
■ ■
جلست «دودو»، التى كان اسمها «ديانا» ومن قبل ذلك «دنيا»، فى موضعها بالصالة، فلم تقُم منه منذ خرج سمير متعجلاً بعد الغروب، حتى انتصف عليها الليلُ.. كانت تُدير برأسها الخطط الرامية إلى حصولها على ما يمكن حصولها عليه من «سمير»: طفل، شقة، سيارة، مالٌ يُدَّخر فيؤمن الأيام التالية.. الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، قامت من قعدتها التعيسة لتصفيف شعرها وإسباغ المساحيق الملوَّنة على وجهها، انتظاراً لرجوع «سمير» الذى تعرف أنه لن يلمسها الليلة، لكن عليها القيام بما عليها، عساها تصل يوماً إلى بعض ما تريده منه أو يجعل الله لها منه مخرجاً.
لم تكن تعرف أن «سمير» مزّق الورقة العرفية التى كانت مُخبّأة فى خزانة الملابس، وأنها لن تراه من بعد أبداً.
29/مايو/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق