بدايةً، لابد من الإشارة إلى نقطتين تتعلقان بعنوان مقالتنا هذه. النقطة الأولي، أن كلمة «فرعون» لا تعنى عندى أى معنى سلبى، لأننى أستعملها بمعناها المصرى القديم «الأصلى» الذى يعنى حرفياً: البيت الكبير (بر، عا ـ بر، عو) ويعنى مجازاً: حاكم مصر..
والنقطة الأخري، أن هذا العنوان يُقارب عنوان مقالتى المنشورة قبل عامين: «هل يقع الفرعون الجديد فى ثالوث سقوطه؟». وكانت موجهة للرئيس المصرى المقبل آنذاك على اعتلاء كرسى الرئاسة، وكتبتُ له أيامها أن هناك ثلاثة أمور من شأنها أن تُسقطه، وتزيد أحوال البلاد سوءاً وتُكثر بها السوءات. وكانت هذه الأمور الثلاثة، وبالأحرى التحذيرات، الموجَّهة للدكتور «محمد مرسى» هي: الانحياز لجماعته وتجاهُل أنه رئيس للمصريين جميعاً، الاعتماد على مركزية «المقطم» فى زمن تجاوز نظام الحكم المركزي، احتقار خصومه السياسيين ومعارضيه واعتبارهم بالضرورة أعداء لا معارضين سياسيين.. ومن العجيب، أن الرئيس الأسبق «مرسى» بدا كأنه يتعمَّد الوقوع فى المحظور المُحذّر منه، ويجتهد فى مخالفة النصائح الثلاث! استخفافاً منه، أو ظناً أنه الأذكي.. فانتهى به الحال، وبنا، إلى ضياع عامين سُدي.إذ أُلقى به فى غياهب السجن الذى كان قد هرب منه، وأُلقينا نحن فى مأزق الوقوف على حافة الخطر الليبى والسورى واليمنى والسودانى والعراقى والصومالي.
ثم كان ما كان مما نذكره، ولا نريد أن نتذكره، وانتهى أمرنا إلى ما نحن فيه اليوم، حيث يُعلن رسمياً فوز المشير السيسى بانتخابات الرئاسة وتسلمه المسئولية الجديدة. ومن مسئوليتى، مجدَّداً، أن أدعو له بالتوفيق وأدعو الله ألا يضطرنا لمعارضته. وأن أشير إليه محذِّراً من الأخطار المحدقة به، وقد تكون سبباً فى سقوطه غير المرغوب فيه.. ولن يُسعد إلا أعداء البلاد، وآخرين من دونهم «لا تعلمونهم، الله يعلمهم». وقد كانت الأخطار الثلاثة المحدقة بالرئيس مرسى، متراكبة عضوياً، ولذلك وصفتها بالثالوث، لأنها تشكل الزوايا الحادة، الداخلة فى تركيب المثلث. فانتماؤه المذهبى وانحيازه لجماعته، كان سيرتبط لا محالة بحالة الخندقة والمركزية والإعلاء الوهمى للذات، وبالتالى احتقار الخصوم باعتبارهم أعداءً ماداموا يعارضون. وكذلك الحال، أيضاً، فى ثالوث الأخطار المهدِّدة للرئيس السيسى، فهى أيضاً متراكبة عضوياً. وبين زواياها الثلاث «الحادة» صلة، يمكن أن تجعل التالى منها نتيجةً لما سبقه من «الأثافى» الثلاثة.. وتبيان ذلك فى الآتى:
إن أول خطر سوف يواجه المشير عبد الفتاح السيسى «رئيس الجمهورية» هو قدرته على الانتقال الذهنى، من نمط التفكير العسكرى الصارم الذى عاش فيه قرابة أربعين عاماً، تدرج خلالها من أدنى المراتب العسكرية إلى أعلاها.. إلى نمط التفكير المدني، اللازم لعملية الإدارة السياسية، فى بلدٍ لم يهدأ هيجانه بعد ولايزال شبابه غاضباً ومتحسِّراً، وأغلب «ناشطيه» غير راضين عن أى وضع! وذلك لأسباب مختلفة، بعضها منطقيٍّ وإنسانيٍّ عامٍ، وبعضها الآخر مصالحى بالمعنى الضيق والحقير للكلمة. وهذا الانتقال الذهنى لا يجب الاستهانة به، وهو ليس سهلاً. فالرجل اعتاد سابقاً أن يأمر مرءوسيه من الجنود، فيأتمرون من فورهم ويطبقون القواعد العسكرية المعروفة، مثل (نفّذ الأمر وبعدين اتظلَّم منه.. نفذ الأوامر ولو غلط) وبالطبع، فهناك معقوليةٌ ما فى تلك القواعد العسكرية، لأن المناقشات (والمحاورات، وإبداء الرأى والرأى الآخر، وحق الاختلاف، والتنوع البشرى الخلاق..) هذه كلها مفاهيم «مدنية» لو شاعت فى أى جيش لانهزم من فوره. فالقائد العسكرى يرى عبر التقارير السرية وغير السرية، ما لا يراه بالضرورة كل الذين يعملون تحت قيادته، وإذا اعتاد الجنود على «الحوار.. المناقشة .. إبداء الرأي.. الإدلاء بالرؤي» لصار أمرهم بدداً.
وكثيرٌ من الناس يظنون أن ما نسميه حُكماً عسكرياً، ولا نحبه، هو شرط لكل رئيس ذى خلفية عسكرية. وهذا غير صحيح بالمرة. فالحكم العسكرى هو «طريقة إدارة وتفكير» قبل كل شيء، وقد رأينا رؤساء كانوا أصلاً من ذوى الخلفية العسكرية، لكنهم حكموا بلادهم بعقلية مدنية تناسب الإدارة السياسية. وعلى النقيض من ذلك تماماً، رأينا حُكاماً ما كانت لهم يوماً خلفية عسكرية، لكنهم حكموا قومهم وكأنهم جنودهم، وهم القواد! الخلفاء العثمانيون لم يكونوا من خلفية عسكرية، ومع ذلك كانت إدارتهم السياسية صارمة وبالغة القسوة، وكان الواحد منهم يقتل إخوته الذكور يوم تسلمه السلطة (أحدهم قتل فى ليلة واحدة قرابة العشرين منهم) وبشّار الأسد لم يكن ذا خلفية عسكرية، لكن النظام الذى ورثه عن أبيه كان عسكرياً بالكامل، والسادات كان رجلاً عسكرياً لكنه كان مدنى الأداء والرؤية.. إن ما يسمى «حُكم العسكر» و يستحق بالطبع الرفض، هو (نظام) للإدارة السياسية ، وليس صفة شخصية فيمن كان عسكرياً ثم صار سياسياً.
المسألة إذن لا تحدِّدها خلفية الرئيس، بقدر ما تتحكم فيها طريقته فى التفكير وقدرته على تطوير آلياته الذهنية بما يتوافق مع متطلبات الانتقال من الحياة العسكرية، إلى المدنية..
والخطر الثانى المحدق بالرئيس السيسي، يرتبط عضوياً بالخطر الأول. لأنه إن لم يستطع تطوير طريقة تفكيره، هو وطاقم الرئاسة، ليصير ذا نزعة مدنية تناسب الحياة السياسية. سوف يتعسكر الحالُ لا محالة، فى عموم البلاد. وهذا ما لن يقبله كثيرون، متفاوتون فى مواقفهم وتوجهاتهم، لكنهم سوف يتآزرون معاً ويشكلون خطراً محدقاً بالرئيس الجديد.. قلتُ عقب إزاحة الرئيس مرسى وسجن أعوانه، ان الإخوان المسلمين لن تقوم لهم فى مصر قائمة، ولن يعودوا يوماً للحكم. ولكن ذلك لا يعنى أن الظاهرة ذاتها ستختفى فجأة، والظواهر الاجتماعية الكبرى ليس من شأنها الاختفاء فجأة. فلا يزال هناك أتباعٌ صغار لجماعة الإخوان، وهناك متعاطفون معهم إنسانياً أو مذهبياً، وهناك دعم خارجى سيظل مستمراً مهما ضعف. ولسوف يتقارب هؤلاء جميعاً، بالضرورة، مع أطياف أخرى سياسية واجتماعية رافضة لحكم الرئيس السيسي، لأسباب متفاوتة ومختلفة . فمن هذه الأطياف، جماعة الأثرياء الذين يسميهم الناس «رجال أعمال»، وكثير منهم فى واقع الأمر «رجال اقتناص الفرص» التى كانت سانحة أيام مبارك وعقب اندلاع الأحوال فى يناير 2011. وقد يسميهم الناس ذيول الحزب الوطني، وهم يعتبرون أنفسهم الرؤوس وبقية الناس ذيولا لهم..
ومن هذه الأطياف التى ستّتحد (مصالحياً) جماعة الثائرين فى المطلق، والهائجين دوماً بلا روية. كأن الحال الثورى مطلوب لذاته، لا لإنقاذ البلاد من مهاوى السوء. وهؤلاء فيهم مخلصون، ومدَّعون، ومرتزقة، وأصحاب أغراض، وفوضويون، واشتراكيون لم يقرأوا «رأس المال» ولم يفهموا الفلسفة الماركسية أصلاً.. وقريب من هؤلاء «أثرياء الثورة و الهيجان» .
والخطر الثالث المحدق بالرئيس المصرى الجديد، وبمستقبل البلاد، هو الحالة الأخلاقية العامة للمصريين، أو بالأحرى لبعض المصريين الذين أمنوا العقاب فأساءوا الأدب، خلال سنوات حكم مبارك والسنوات التالية لسقوطه. وصحيحٌ أن مصر تعانى اليوم من مشكلات اقتصادية وأمنية وتعليمية، لكن المعاناة الأكبر والأدق (والأخفي) هى التعامل مع مجتمع فى ظل انهيار منظومة القيم، واهترائها.. وهذا خطرٌ عظيم، سوف نفصِّل الكلام فيه، فى المقالات السبعة القادمة. فإلى لقاء.
المصدر: الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق