لعله قد صار واضحاً لنا، بشكل ناصع، أن للمصريين أحوالاً غرائبية عديدة وعجائب لا حصر لها. منها ما استعرضناه معاً فى المقالات السابقة من هذه "السباعية" ومنها ما عرضناه فى مقالة الأربعاء الماضى، حيث توقفنا عند التقلبات المصرية الكبرى عبر تاريخنا الطويل، لرصد هذه الظاهرة وتفسيرها. واليوم نستكمل الكلام فى ذلك، مقتربين من حالة التحولات المتطرفة والتقلبات التامة فى المشهد المصرى العام، عقب اندلاع الأحداث فى آخر يناير 2011 ثم فى السنوات الثلاث التالية التى رأينا فيها العجب العجاب. ولننظر فى هذه المواقف المتقلبة، المتضاربة، التى شهدناها خلال الفترة الأخيرة.
فى ابتداء الاهتياج العام، ظللنا لمدة شهرين نقول "ثورة يناير أخرجت من الشعب المصرى أفضل ما فيه" ثم صرنا نقول بعد ذلك بقليل إن هذه "الثورة" أخرجت من الشعب المصرى أسوأ ما فيه. وهذا التحول من النقيض إلى نقيضه، كان بسبب شغفنا نحن المصريين بصيغة أفعل التفضيل "أفضل، أسوأ" وكان يمكن لنا، لو كنا نعرف كيف نضبط اللغة التى نستعملها، أن نعفى أنفسنا من هذا التناقض بقولنا: ثورة يناير أخرجت من الشعب المصرى ما فيه! بلا حُكمٍ (عامٍّ) على كونه أفضل أو أسوأ، وبالتالى يصير بإمكاننا أن نرى الطبيعة الفعلية للحالة العقلية والاجتماعية العامة، بما تشتمل عليه من مكونات بعضها "فاضل" وبعضها الآخر "بالغ السوء" فنستطيع أن نُولى المكونات السلبية اهتمامنا فنخرج منها، ولا نقع فى براثن اصطدام الجيد بالردئ، وفى اضطراب الأحكام العمومية غير الصائبة. وفى منتصف فترة الاضطراب المصرى العظيم، أعنى قبل عامٍ ونصف العام، انهمكنا فى الخلاف حول ما إذا كانت ثورة يناير 2011 هى بالفعل "ثورة مجيدة" أم هى "فوضى خلاَّقة". وانهمك الكلُّ فى المواقف المتضاربة، والمتحوِّلة، حتى صار من الأوصاف الشهيرة فى ذاك الوقت القريب: المتحولون.
وبالفعل، لقد تحوَّل كثيرٌ من المصريين خلال السنوات الثلاث الماضية، من النقيض إلى النقيض: يرفعون عصام شرف فوق الأعناق فى ميدان التحرير ابتهاجاً باختياره "رئيس وزراء الثورة" ثم يهتاجون ضده بعد شهرين ويشتمونه، ويتهمونه علناً بأنه أسوأ رئيس وزراء عرفته مصر. ناهيك عن توزيع السباب عليه وعلى وزرائه الذين كانوا يتغيَّرون بسرعة، وبالأحرى: يتساقطون، حتى أن بعضهم قضى فى الوزارة يومين اثنين، ثم انخلع أو خُلع بسبب هياج الناس ضده بعدما كانوا يهتفون له. ومن هنا، يظهر لنا أن "المتحولين" لم يكونوا، فقط، هم هؤلاء الكُتَّاب والكَتَبة الذين أيَّدوا ثم ندَّدوا، وإنما كان هذا التحوُّل عاماً فى معظم الناس. فجأة، كنا نكتشف أن مصر "إسلامية، إسلامية" ونصخب فى الشوارع والميادين، مُعلنين العبارة التى أراها كوميديةً: على القدس رايحين شهداء بالملايين (ولا أدرى لماذا لم يقولوا: منتصرين بالملايين) ثم ننسى بعد شهور كل شىء يتعلق بالقدس، وبالشهادة، وبالمظاهر الشكلية التى كان يستعلن بها الذين يستعملون الدين فى السياسة.
أين ذهب هؤلاء الملتحون الذين كانوا يملأون شوارعنا والنواحى؟ وأين نساؤهم المتشحات بالاسوداد وأين ساحر الرأى العام فى مصر: محمد حسان؟ وأين "أختى كاميليا" التى احترقت بسببها المبانى الدينية وأُزهقت من أجلها الأرواح؟ وهل اختفى فجأة هؤلاء "الحازمون" الذين كانوا يتوعّدون مخالفيهم بالويل والثبور، ويحاصرون مدينة الإنتاج الإعلامى كأنهم فى نزهة خلوية، ويرسلون مجموعات الشباب للقتال فى سوريا وليبيا. كيف اختفى هؤلاء كلهم، فجأة، مثلما ظهروا فجأة؟
أعرفُ أستاذة جامعية، من النوع النمطى المعتاد، كانت تقاطع جيرانها الذين أيّدوا "شفيق" فى الانتخابات الرئاسية الماضية، لأنها كانت تعتقد أن عدم دعمهم "مرسى" هو خيانة للدين والوطن! كان ذلك رأيها، ثم رأيتها بعد ذلك بعشرة أشهر تجمع فى الشوارع توقيعات الناس ضد رئاسة مرسى، الكارثية، فى إطار الحركة التى عرفت العام الماضى باسم "تمرُّد". ولم يكن هذا الموقف المتناقض فردياً أو مختصاً بهذه الأستاذة الجامعية بالذات، وإنما كان موقفاً عمومياً لمعظم الناس وتياراً جارفاً. ولم يكن هذا التقلُّب العام العجيب، بسبب أن المصريين يحبون التغيير ويميلون إلى التقلب، بل بالعكس، فالمصريون هم أهل "الثبات والنبات وخِلْفة الصبيان والبنات". ولا يمكننا، منطقياً، قبول التفسير الظريف الذى قدمه شاعرنا الراحل "أحمد فؤاد نجم" بخفَّةِ دمه المعتادة، حين قال: مصر دى حدُّوته، وشعبها مالوش كتالوج! فهذه الرؤية الشاعرية والتعبيرات الشعرية، لا تجدى كثيراً إذا أردنا تفسير حالة التناقض المريع التى عصفت بالعقل المصرى الجمعى خلال السنوات الثلاث الماضية. وبالتالى، علينا أن ننظر إلى هذا الأمر، بروّيةٍ ومنطقية:
إن العزوف عن المشاركة السياسية والفعل الاجتماعى العام، خلال الستين عاماً الضباطية الأحرارية، وخصوصاً فى الثلاثين سنة الأخيرة منها "المباركية" بالإضافة إلى غياب المناهج التعليمية المتطورة، وبؤس التدريس، ونقص الرؤى الثقافية والخطط المعرفية، وغير ذلك من الأسباب التى أدَّت إلى حالة الجهالة العامة والغباء السياسى. أسهمت بشكل مباشر فى حالة التخبُّط العام، وبالتالى المواقف المتناقضة، عندما شرع الناس فى مصر، فجأةً، فى المشاركة السياسية وصياغة الواقع الثورى الجديد. ولا شىء أخطر على البلاد من جهل أهلها ونقص وعيهم العام، ولذلك كنتُ دوماً أردِّد قولاً وكتابة: الوعى وقود الثورة.
فماذا بعد هذه العجائب، والأحوال الغرائبية؟ وما بال الناس فى بلادنا قد صاروا متخبطيِّن على هذا النحو المريع؟ وكيف الخروج من تلك الحالة إلى أفقٍ أكثر جديةً ونفعاً؟. لا سبيل إلا الآتى: العملُ الجاد فى المجال الثقافى العام (لأن المواجهات والأخطار المحدقة بنا، تتعلق أساساً بطريقة التفكير). ضبطُ اللغة التى يستعملها العوام والخواص (لأن غياب الدلالة وانفصالها عن المفردات يجعلها سبباً للفوضى الذهنية). الإصلاحُ الجذرى للعملية التعليمية، لاسيّما الجامعية (حتى وإن اقتضى ذلك إغلاق الجامعات الحكومية لمدة عامين).
وأعرف أن هذا الطريق طويل، لكن لا غنى عنه.
واليوم، تجرى عملية حصر الأصوات التى أدلى بها الناخبون، والشواهد كلها تقول إن المشير السيسى سيكون غداً "الخميس" هو رئيس مصر. وسيكون لديه مهام عظيمةُ القدر تحتاج عملاً عظيم المقدار، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً واجتماعياً. لكن المهمة الأهم من ذلك كله، والممهدة له، هو إعادة بناء منظومة القيم المصرية. التى اهترأت.
وابتداءً من الأسبوع القادم، سيكون كلامنا عن تلك المسألة الأخطر، ببيان المقصود من الاهتراء، والمصرية، والقيمة، والمنظومة، وإعادة البناء.
المصدر: الأهرام اليومى
28/مايو/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق