الخميس، 22 مايو 2014

عجائب مصرية (6)


المصدر: الأهرام اليومى


ومن عجائب أمورنا، نحن المصريين، اننا قومٌ متقلِّبون، فى الماضي والحاضر، ومع ذلك لا نحب أن يصفنا أحدٌ بالمتقلِّبين. وكثيرون ممن يقرأون التاريخ المصري المزيد، يندهشون من تلك التحولات الكبرى (الدراماتيكية) فى الحياة المصرية العامة، وعلى مستوى العقل الجمعي، وكثيرون ممن يتابعون أحوالنا الحالية يستغربون من سرعة التحولات فى المزاج المصري العام، ويرجّحون أن يكون السبب فى ذلك هو تلاحق الوقائع، أو طيبة أهل مصر، أو استحالة فهم الشخصية المصرية. وهذه بطبيعة الحال أحكامٌ عموميةٌ، ولا أقولُ بلهاء، نلجأ إليها يأساِّ من الفهم العميق وتلافياً لمشقته، فنقدّم هذه التعليلات العليلة التى لا تصبر أمام أى نقد عقلاني، أو أيِّ محاولةٍ علمية لتحليل معطيات الواقع المصري. ومن هنا، سوف نتوقف فيما يلى عند ظاهرتين كبيرتين تتصلان بتقلُّبات المصريين، الأولى تتعلق بالتاريخ المصري وتحولاته العقائدية المدهشة، والأخرى ترصد تحولات المزاج العام فى مصر منذ اندلاع ثورة يناير 2011 وحتى اليوم.
يستغرب كثيرٌ ممن يقرأون التاريخ المصري العام، من ظواهر "التدين المصري" ومساراته وتحولاته الكبري، ليس بالمعنى السلبي الذى طرحته فى كتابي المعنون "دوَّامات التدين" وإنما بمعنيً آخرُ هو دوام (الديانة المصرية القديمة) عدة آلاف من السنين راسخةً مُستقرة، ثم هجران المصري لديانته العريقة، وإيمانه العميق بالمسيحية التى وفدتْ إليه من خارج الحدود الشمالية الشرقية.
أزاحت المسيحيةُ الديانةَ المصرية القديمة، وانتشرت بمصر حتى صارت عقيدة الأغلبية من أهلها، ولكن بعد قرونٍ طوال من نضال المصريين من أجل الاستمساك بالعقيدة المسيحية القويمة (الأرثوذكسية) وبعد عبورهم الفترة المسماة "عصر الشهداء" إشارةً إلى كثرة المؤمنين الذين ضحوا بحيواتهم من أجل الديانة المسيحية، نجد المصريين يرِّحبون بالإسلام ويدخلون فيه أفواجاً، فتصير مصر بلداً مسلماً وعاصمة من كبريات العواصم الإسلامية فى العالم، ناهيك عن دورها التاريخي فى خدمة الإسلام. وهو الدور المتمثل فى نشاط "الأزهر" خلال ألف سنة، وفى قيام القاهرة بعبء الحفاظ على التراث والحاضر الإسلامي، لاسيما عقب سقوط بغداد بيد المغول ثم إسقاط دولة الإسلام فى الأندلس. 
لكن هذا الأمر، فيما أري، فيه نظرٌ. ويلزمه ليكون مفهوماً، مراعاة بعض الحقائق وإعمال العقل فى تلك التحولات. فمن تلك الحقائق الواجب مراعاتها، أن ما نسميه "الديانة المصرية القديمة" لم تكن نسقاً عقائدياً موحَّداً امتد لعدة آلاف من السنين. صحيح أن المصري القديم، والمعاصر، كان يؤمن بإلهٍ أعلى اختاروا له الاسم المصري القديم (آمون) أى المحتجب أو المختفي خلف السماء العالية، وصار اسم الإله ينطق بألفاظ محوَّرة لن نبذل جهداً كبيراً لاكتشافها وإدراك تطابقها. ومع ذلك، فإن مصر القديمة لم تكن لها يوماً ديانة موحَّدة، وعبثاً حاول الفرعون المحدود المحبوب "إخناتون" توحيد ديانة أهل مصر تحت لواء الإيمان بالإله الذي التقطه من التراث المصري الأقدم منه، أعنى الإله "آتون" الذى كان مندثراً فى زمانه، ولكن مسعاه هذا لم يُكتب له النجاح.
وقد فشلت محاولة "إخناتون" ودفعت البلاد ثمناً فادحاً لهذا الفشل، إذا اضطربت أحوالها واحتُلّت أراضيها، نتيجةً لهذا الفشل الإخناتوني الذى كان من أسبابه الأساسية، أن التنوع العقائدي عند المصريين كان وفيراً، مع أنهم كانوا يعيشون لعدّة آلاف من السنين تحت مظلَّة "آمون" الذى لم يكن لديه بأس من تنوع العقائد تحت مظلَّته الجامعة، ولم يجد بأساً فى تعدد الآلهة المفردة، والمجامع المقدسة التى كان منها ثالوث: ايزيس، أوزوريس، حورس (سِت، أوزير، حور).
وقد حدث هذا الانتقال العقائدي، نظراً للتشابهات الكثيرة بين هذا الثالوث المصري المقدس (الأقدم) والثالوث الوافد، سواءً فى صورته الأولى "العذراء، روح القدس، الابن" أو فى صورته النهائية: الآب، الابن، روح القدس. ونظراً للتقارب الشكلي بين الرمز الديني القديم: عنخ (مفتاح الحياة) والرمز المقدس الذى وفد من فلسطين: الصليب (علامة الخلاص). ناهيك عن "المواساة" التى قدمتها المسيحية لشعبٍ ظل عدة قرونٍ، سبقت ظهور المسيحية، مقهوراً. 
ومن غير الصحيح، الظنُّ بأن مصر استقبلت الإسلام بالترحاب، حين جاء إليها مع الجيش الذى قاده عمرو بن العاص. فالذى حدث فعلاً، هو رضوخ المصريين للعرب المسلمين الفاتحين باعتبارهم سُلطةٍ سياسية وعسكرية، وجدوها أرحم بكثير مما عانوه من ويلاتٍ على يد إخوانهم "الحُكام" المشتركين معهم فى الديانة. ليس فقط فى العقيدة (المسيحية) العامة، وإنما أيضاً فى المذهب (الأرثوذكسية). لكنهم تخالفوا فى بعض دقائق التفاصيل، فدفع عشراتُ الآلاف من أهل مصر آنذاك حياتهم، ثمناً لخلاف مذهبي لم يكن معظم "الشهداء" يدركون حقيقته وفحواه.
وخلال مئات السنين التى أعقبت الفتح (أو الغزو) العربي الإسلامي لمصر، بقيت العقيدةُ العامةُ المنتشرة فى مصر، هى المسيحية الأرثوذكسية. وكان المسلمون الفاتحون يعيشون فى معسكرات منعزلة عن عموم البلاد "الفسطاط، العسكر، القطائع". ولم يكن مسموحاً لأفراد الجيش من العرب المسلمين، بأن يختلطوا بالمصريين فى القرى والبلدات المتناثرة فى الأرض الخضراء، إلا فى زمن (الارتياع) الذى كان يسمح فيه للجنود بالخروج من "معسكراتهم" إلى الريف، فترة الربيع، فيأخذوا أحصنتهم لترعى هناك وتصحُّ، فيزداد استعدادها لأى قتالٍ متوقع. وكان من المحظور بشدة، أن يتعامل الجنود (المسلمون) مع أهل القرى (المسيحيين) أو يتداخلوا معهم. ناهيك عن حظر الاختلاط بهم، أو التزاوج معهم مثلما حدث مثلاً فى الأندلس. ولذلك، لم نسمع فى القرون الهجرية الأولى عن زيجات شهيرة بين الحاكمين المسلمين، والمحكومين المسيحيين. المهم، لم تدخل مصر فى الإسلام إلا فى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ولم يكن الأمر انقلاباً عقائدياً، بقدر ما كان إجباراً اقتصادياً وعَنَتاً اجتماعياً جرى فى الزمن الفاطمي، وتخلص منه معظم المسيحيين فى مصر بأن أعلنوا إسلامهم وتحوّلوا عن المسيحية، لاسيّما أنهم وجدوا كثيراً من وجوه التشابه بين الديانتين، وكثيراً من التطابق بين الدين الإسلامي وبعض المذاهب المسيحية القديمة، كالآريوسية والنسطورية.
ها هى المساحة المخصصة لهذه المقالة قد نفدت. فلنرجئ الكلام عن التقلُّبات المصرية المعاصرة، إلى مقالة الأسبوع القادم التى نختتم بها هذه السباعية. فإلى لقاء.
 


21   -  5   -  2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق