الأربعاء، 14 مايو 2014

الأدواءُ المزمنة والأدويةُ الممكنة


المصدر: الأهرام اليومى

بداية، وكيلا تختلط فى أذهاننا كلمات عنوان هذه المقالة، ومعانيها، فإن الأدواء جمع الداء الذى هو المرض! والمزمنة لا أقصد بها تصنيف الأطباء القدامى للأمراض (الأدواء) الوافدة والوبائية والمزمنة، وإنما مرادى تحديدا هو: العلل الاجتماعية وحالات الخلل الذهنى العام، الناتجة عادة عن القصور الإدراكى للعقل الجمعى. فمن ذلك مثلاً، الاعتقاد بأن الحلول المفاجئة للمشكلات العويصة سوف تأتى من السماء، وأن تدهور الأحوال يؤدِّى بالضرورة إلى صلاحها فى نهاية المطاف، وأن الخروج من الأزمات يكون بظهور المخلِّص الذى يحمل عن الناس عبء الخروج بهم مما يعانون منه. فهذه بعض الأدواء المزمنة التى استطال أمرها فى ثقافتنا العربية العامة، والمصرية خصوصاً، فظلَّت لعدة قرون من الزمان تخايل أذهان الناس وتعمِّق اعتقادهم بالوهم الذى لا يغنى من الحق شيئاً، ولا يؤدى فى خاتمة الأمر إلى خير. 
وقد اعتدنا على استعمال المعتقد الدينى لتأكيد أوهامنا العامة، عبر مالا حصر له من عمليات تحريك الدلالة أو بالأحرى تحريفها عن مواضعها كى تناسب الحالة المرضية التى لا نريد الاعتراف بوجودها. نقول ربك يفرجها من عنده مع أن هذا الربَّ يقول للمسلمين فى قرآنه إنه لا يغير ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، ويقول للمسيحيين فى إنجيلهم (بشارتهم) إن المؤمن يجب أن يجاهد فى سبيل يسوع مثلما يجاهد الجندى الصالح. لاحظ هنا أن مفاهيم الجهاد والجندية وردت أولاً فى أعمال الرسل (الجزء الأخير من الإنجيل، قبل ظهور الإسلام بعدة قرون!).
وقد عرضتُ بشىء من التفصيل لبعض هذه (العلل) فى كتابى متاهات الوهم الذى جاء الفصل الأول منه عن أوهام المصريين، ومنها وَهْم المخلص (الذى لا يخلِّص إلا الوهم والخيال) ثم تتبَّعتُ ظهور هذه الفكرة ابتداءً من ظهورها الأول فى الفكر اليهودى القديم، عقب تدمير أورشليم، وقيام المسيحية على قاعدة أن الآب السماوى ظهر فى صورة الابن الأرضى ليخلِّص الأمة اليهودية مما يعانونه، ثم صار خلاصة شاملاً لجميع الأمم والبشر شرقاً وغرباً. ولما استطال الاضطهاد السلطوى للشيعة، سكن نفوسهم وَهْم المخلص بمسمى جديد هو (المهدى المنتظر) الذى سيأتى ليملأ الأرض عدلاً بعدما امتلأت ظُلماً وجوراً. وهو اعتقاد انسرب مع الأيام إلى أهل السنة، أيضاً، واستدلوا عليه ببعض الأحاديث النبوية التى اختلف علماء الحديث الشريف فيها وتفاوت حكمهم عليها بالصحة أو بالضعف، لكن العوام من الناس قبلوا الفكرة على علاَّتها وصاروا يعتقدون بمجىء صلاح الدين الذى سوف يحرِّر القدس، ومجىء قطز الذى سوف يصد المغول وكل المعتدين، ومجيء أحمس الذى سوف يعيد للبلاد الأمن ويطرد الغزاة. لاحظ أنهم جميعاً قواد عسكريون صاروا بعد حينٍ حُكاماً.
وفى الشهور التى سبقت يوم الخروج الهائل للمصريين يوم 30 - 6 - 2013 وهو اليوم الذى حدث فيه ما يصرُّ فريقٌ على تسميته بالانقلاب، فيصرُّ الآخرون على تسميته ثورة (وهو فى واقع الأمر تمرُّد وموجةٌ أخرى من موجات الثورة المصرية التى استعلنت يوم 25 يناير 2011). المهم، أنه فى الشهور التى سبقت هذا اليوم المزلزل للعروش، كان كثيرٌ من المصريين يتنادون ليلَ نهار، سراً وجهراً، بأن يقوم الجيش بخلع الرئيس الإخوانى الذى لم يرض غالبيةُ المصريين عن أدائه السياسى، وعن وقائع وملابساتِ تلك السنة التى اعتلى فيها العرش، فلتةً.
وأيامها تحفَّظ الفريق (المشير من بعد) عبدالفتاح السيسى، عن دخول الجيش هذا المعترك، واعداً بأن جيش مصر لن يلعب دوراً سياسياً ولكنه لن يترك الشعب وحيداً إن لزم الأمر، وإنما سينحاز إليه. وأيامها أصيب كثيرون بالإحباط العام بسبب هذا الموقف، لأنهم أدمنوا (الأدواء) والعلل المشار إليها فى بداية هذه المقالة، وأرادوا أن يقوم الجيش بالمهمة التى يريدونها (أو بعبارة أخرى: يعفيهم المخلِّص من بذل المجهود). ولكنهم لما لم يجدوا بديلاً من التحرُّك خرجوا إلى الشوارع بهذه الأعداد الغفيرة، والخروج إلى الشوارع والميادين ليس هو (الثورة) وإنما هو استعلانها الأخير، ولحظة الوقوف على حافة الهاوية على قاعدة: إما - أو. وبالطبع، كانت هذه الحركة الجماعية لها تمهيدٌ وإعدادٌ وتحفُّزٌ شارك فيه ما لا حصر له من المصريين: عوام الناس، النابهون من الشباب، العاطلون عن العمل، المثقفون، النيابة، الشرطة، المحامون، القضاة، الإعلاميون. إلخ، وكان آخر من انحاز إلى هذا الجمع المصرى الحاشد: الجيش.
كان الغرض (الذى تحقق فعلاً) من خروج الناس يوم الثلاثين من يونيو، هو إزاحة رئيس فاشل، مثلما تمت قبلها بثلاثين شهراً، إزاحة رئيس فاسد. وصار الرئيسان خلف القضبان حتى يوم الناس هذا، ولكن العلل القديمة والأدواء المزمنة عادت أعراضها للظهور، وتمثل ذلك فى حالة المخايلة وتحريك الدلة بإزاحة جميع المشاركين فى يوم الخروج الهائل، وإبقاء صورة لفردٍ واحد هو القائد العسكرى للجيش المصرى: عبدالفتاح السيسى. ولا شك عندى فى وطنية هذا الرجل، وحنكته، ولا أرى سبيلاً للطعن عليه بهذه الترهات التى يحاول المخالفون له ترويجها. ومع ذلك، فهو ليس (الوحيد) الذى أزاح الإخوان وأطاح بوهم الخلافة، وهو ليس (المخلص) الذى سيملأ مصر رخاءً بعدما امتلأت تخريبا، وهو ليس المرسل من السماء كهدية لأهل الأرض.
وقد أعلنتُ مراراً (بعد يوم 30 يونيو) أننى أتمنى أن يبقى المشير السيسى بمنصبه، فيصير الجيش رصيداً مصرياً غير مهدر فى لعبة السياسة. وأننى أضنُّ بهذا الرجل عن الدخول فى معترك التأييد والمعارضة، ومن ثمَّ فقدان مكانته الخاصة فى نفوس المصريين ومن تاريخهم المعاصر. وأننى أرجو أن تجرى العملية السياسية بأطوارها المتقلِّبة بعيداً عن رزانة المؤسسة العسكرية التى لا تتناسب طبيعة تكوينها مع عملية الاختلاف فى الرأى والمواقف. وهذا ما أراه من زاويتى صالحاً لهذا الوطن، وربما أكون مخطئاً، غير أن الأمر لا محالة يلزمه إعمال البصائر فى المصائر الآتية.
نعود إلى (الأدواء المزمنة) لنقول إن علاجها وأدويتها الممكنة، تكمن فى تشخيصها بدقةٍ ثم التلطُّف فى مداومتها بمنع أسباب حدوثها (الجهل العام، السبهللة، عدم الرغبة فى قيام الشخص بالدور المطلوب منه، التكاسل عن تلبية الحاجة إلى الانجاز. إلخ) ثم إصلاح الخلل الذى أحدثته هذه العلل والأمراض المزمنة فى الذات المصرية، بإعادة بناء الوعى العام على أسس رشيدة. وهذه الأدوية الممكنة للأدواء المزمنة، لا سبيل إليها إذا استجاب المشير السيسى للشهوات السياسية والدعوات المجانية لجعله رئيساً (ولو بالقوة!) فإن قبل الرجل الترشح فسيفوز، ويخسر نفسه، ونخسره. ناهيك عن أن سلطانه سوف يزيد من الأدواء المزمنة. ولمن يقول فما البديل نقول: سؤالك هذا دليل على عمق الإصابة بالأدواء المصرية المزمنة، وبالعلل الذهنية العتيدة. 
فتدبَّروا الأمر رحمكم الله!.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق