الأربعاء، 14 مايو 2014

أثرُ الفَرَاشة


المصدر: الأهرام اليومى

يرتبط عنوان هذه المقالة بما جرى الشهر الماضي معي، عندما دعاني القائمون على مؤسسة شومان الثقافية لإلقاء محاضرة عامة فى العاصمة الأردنية عمان، واقترحوا لها عنواناً نمطياً هو: علاقة المثقف والسُّلطة. وقد رأيتُ أن العنوان المقترح هو تكرار لتلك الصيغة المستهلكة التى لا أحب الخوض فى مثلها، للأسباب الآتي ذكرها، فقمتُ بتغيير عنوان المحاضرة إلى: أثر الفراشة. 
والحديث عن (المثقف والسلطة) مستهلكٌ، نظراً لهذا الكم الوفير فى الطرح المتوالي لهذا الموضوع خلال العقود الأخيرة من زماننا العربي الحزين. ربما بتأثير العلاقة الجدلية الدرامية بين المثقفين فى مصر والسلطة السياسية فى زمن الرئيس جمال عبدالناصر، الذي ورث عنه الحكم الرئيسُ السادات، الذي أورثه بدوره إلى الرئيس مبارك، الذي أراد أن يورِّث الحكم لابنه. ونظراً لكثرة الهزائم وندرة الغنائم، كان من الطبيعي أن تثور الخلافات بين المثقفين الناطقين بلسان الناس، والسلطة السياسية خلال هذه (الدول) المتعاقبة بالتوارث غير الشرعي، سواءً كان هؤلاء المثقفون من ذوى النـزعة اليسارية كالماركسيين، والاشتراكيين، والراديكاليين (المطالبين بالتغيير الجذري لطبيعة المجتمع)، وأمثال هؤلاء من الحالمين بالعدل الاجتماعي التام. أو كانوا من المثقفين ذوى الاتجاهات اليمينية، كالإسلاميين على اختلاف مفهومهم عن الإسلام الملعوب به فى الميدان السياسي، والمتوسَّل به للوصول إلى سُدَّة الحكم. ومعروفٌ أن الفترتين الناصرية والساداتية قد شهدتا بطشاً عتيداً بكثير من المثقفين المصريين، وهو ما امتدَّ بقدرٍ أقل احتداماً فى فترة مبارك المستديم على كرسيّه، المستهين بمعارضيه على قاعدة: خلّيهم يتسلَّوا! وهو الأمر الذي انتهى إلى جعله هو تسليةً للعوام والخواص في مصر والعالم، عبر حلقاتٍ متتالية رديئة الإخراج: عزل الرئيس أو تنحِّيه، التعصُّب ضده والتعصُّب له، ابتعاده عن الأنظار فى شرم الشيخ، خضوعه للمحاكمة، إلحاق معاونيه به فى سجن طرة، التهويل فى مقدار أموالهم المهربَّة، أبناء مبارك، أحفاد مبارك. إلى آخر هذه المهازل - المباكى التى آن لها اليوم أن تنتهي. 
أما فى البلاد العربية المحيطة بمصر، فقد اتخذت العلاقة بين المثقفين والسلطة السياسية خلال العقود الأخيرة، شكلاً أكثر حدّةً تمت صياغته غير الرسمية، وغير المعلنة، على نحوٍ بسيطٍ لا تعقيد فيه: إما أن يوافق المثقف على ما يراه الحاكم ويوافق هواه، أو يفكر فيعارض فيرحل عن البلاد، أو يعترض فيُعتقل ويُقتل فعلياً ومعنوياً. وهكذا انتهت هذه الأوطان المقموعة إلى الحال المزري الذى ظهرت اليوم آثاره المدمّرة على المجتمعات العربية التى ثارت تباعاً: مصر، تونس، ليبيا، سوريا، اليمن. (لاحظ أنها جميعاً كانت تُدار قبل ثوراتها، برؤساء ذوى خلفية عسكرية وشرطية). 
ولما سبق، كان من الطبيعي أن تُطرح جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة على قاعدة الانحياز للمثقف (المظلوم، برئ المقصد، الحالم) ضد الحاكم المستبد الغشوم الطاغي، على اختلاف الحكام فى درجة الاستبداد وعتوِّ الاستعباد. ومن هنا انهمكت المحافلُ والنشراتُ الثقافية العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة، فى التلميح والتصريح والزعيق العالي، لنعى مصائر (المثقف) الممتلئ استنارةً وإبداعاً وأَلَقاً، على يد (الحاكم) القوى المرتجف من شدو الأغنيات. وأدبياً، تم التعبير عن المثقف بالمعادلات الرمزية من مثل: ملح الأرض، أصحاب القلم، زرقاء اليمامة (وهى الصبية العربية التى حذَّرت قومها من هجوم آتٍ، فاستخفوا بها، فدفعوا الثمن الباهظ) وبدا الأمر واضحاً للعيان غيرَ محتاجٍ لمزيدٍ من الطرح، لكن هواة الكلام أمعنوا فى التوغُّل بمفاوز هذه الصيغة الجذابة المسماة (العلاقة بين المثقف والسلطة) بل راح مثقفونا المعاصرون يقرأون حاضرهم فى تراثنا القديم، ويبحثون فى علاقة مثقفينا القدامى من الأدباء والفقهاء والمفكرين، بمن كانوا يحكمون آنذاك. وبالطبع، انتصرت جميع الآراء للمثقف الذى اكتوى دوماً بنار السلطان، ودفع حياته أحياناً ثمناً للمعارضة السياسية أو للخلاف الفكري ذى البعد السياسي. ومن هنا صرنا اليوم نبكى كثيراً، ونتباكى، على مصائر رجال عظماء من أمثال هؤلاء المثقفين المقتولين: عماد الدين النسيمى، الجعد بن درهم، معبد الجهَنى، غيلان الدمشقي، الحلاج، عين القضاة الهمذانى، السهر وردى الإشراقى. 
وفى المقابل من هؤلاء، نعى الناظرون فى تراثنا وواقعنا المعاصر وهاجموا مَنْ أسموهم (فقهاء السلطان) أو بعبارة معاصرة المثقف الخانع للحاكم ومن هنا توالى الهجوم على شخصيات من أمثال الإمام أبى حامد الغزالي (المتوفى 505 هجرية) لأنه عاش فى كنف العباسيين وانتصر لهم، والعلامة نصير الدين الطوسى (المتوفى 672 هجرية) الذى تعامل عن قرب مع هولاكو وعمل مستشاراً له، والشيخ الصوفي عبدالوهاب الشعراني (المتوفى 973 هجرية) الذى انفرد عن بقية الأولياء بكثرة دخوله على حكام المماليك. 
وهكذا أدى النظر فى علاقة المثقف بالسلطة إلى تلك الصيغة (اليقينية) التى أقرّت فى الأذهان ما يلي: لكي يكون المفكر والفقيه والأديب (المثقف) عظيماً، فلا بد له أن يعارض الحاكم ويختلف معه، ولا بأس لو قُتل على يديه فيصير شهيداً يتغنَّى ببطولاته الذين لا يستشهدون!. وهذه الإشكالية تحتاج فيما أرى إعادة النظر فيها، وفى المسائل الفرعية المتعلِّقة بها. فمثلاً، هؤلاء المتّهمون بأنهم فقهاء السلطان ممن ذكرناهم قبل قليل، كان موقفهم أكثر تعقيداً مما يبدو من الظاهر. فالإمام الغزالي هو أشهر من هجر الدنيا وزخرفها، ثم استغنى عن السُّلطة وهو فى أوج مجده وتألقه الفكري، فترك التدريس بأشهر جامعات زمانه (المدرسة النظامية ببغداد) واعتكف فى منارة الجامع الأموي بدمشق مع فقراء الصوفية، ثم عاد إلى موطنه الأصلي (بلدة طوس الفارسية) ورفض التدريس هناك أيضاً، وعاش خامل الذكر متفرِّغاً للعبادة حتى وفاته فى السنة المذكورة سابقاً. والطوسي، لم يكن أمامه إلا اختيارٌ وحيدٌ، هو صحبة هولاكو الذى أطلقه من سجن قلعة أَلموت التى كان الشيعة الإسماعيلية الذين اشتهروا باسم (الحشَّاشين) يمسكونه فيها، ولما وجد الطوسي أن هولاكو يؤمن بالطالع والتنجيم استغل ذلك وجعله ينفق بسخاء على بناء أكبر مرصد فلكي (علمى) فى الزمن الوسيط، وهو مرصد مراغة الذى جمع فيه الطوسي كبار علماء الفلك والرياضيات فى عصره، وأنقذهم من أهوال الزحف المغولي على العالم الإسلامي. والشعراني اعتذر لأولئك الذين عتبوا عليه تردُّده الدائم على الأمراء، بأن أحوال أهل مصر فى زمانه قد بلغت غاية السوء، وبأنه يدخل على أُولى الأمر لقضاء حوائج الناس المساكين. 
ويتصل بما سبق، أن (المثقف) ليس دائماً الطرف الأضعف فى المعادلة، فالحاكم يستعمل عادةً قواه المباشرة (الشرطة، العسس، الأعوان، السجانين، الجلادين) وهذا كله أقل قوةً وأضعف أثراً من سلاح المثقف: الكلمة. ولهذه الأسباب طلبت من مديري مؤسسة شومان أن تكون محاضرتي بعنوان (أثر الفراشة) لأطرح هذه الإشكالية من زاويةٍ أخرى، غير نمطية.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق