المصدر: الوطن
ابتهج الشاعرُ لحظةَ اعتقد أن قصيدته اختمرت تماماً فى ذهنه، وهو نائم، وعليه الآن الخروج من مسكنه المنزوى بأطراف الحىِّ الشعبى العريق، متعرِّج الحارات، ليأخذ طريقه اليومىَّ المعتاد إلى المقهى الحقير المطل على الميدان الواسع، العامر، المتقاطعة عنده كلُّ الطرق المؤدية إلى اللاشىء. اللاشىء هو عنوانُ القصيدة التى ينوى الشاعر كتابتها فى هذا الصباح، ولن يعوقه عن استكمالها أىُّ عائق. سيجلس حسبما اعتاد، فيسوِّد بالأسطر الشعرية الأوراق النقية، المطوية بعناية فى جيب قميصه الواسع، يُمسكها بإحكامٍ غطاءُ قلمه المعوجِّ. المشرف مع طول الاستعمال على الجفاف.
على كرسيه المعتاد، جلس شاعرُ الحيرة مستبشراً بفيضان مفردات ساحرة الوقع، لا بد لها أن تتدفَّق ما دام قد اقتنص بالأمس مطلع القصيدة، واجتمعتْ لديه هذا الصباح شروطُ الإبداع جميعها: سجائره والقلم والأوراق، هدوء المقهى قبل ازدحامه بالرواد، نظافة الرصيفُ متكسِّرُ الحواف، خيوطُ السخونة المتصاعدة من كوب الشاى المطيَّب بحبَّات القرنفل التى يحبُّ رائحتها، الانهزام أمام العالم الفعلى والانزواء فى دهاليز الذات. وقد زاد من مُستدعيات الإبداع عنده أنه لم يَرَ حوله أعيناً فضوليةً ترنو إليه بالنظرات المشوّشة. إلا عين عامل المقهى، المنهمك فى تجهيز لوازم اليوم الجديد.
اطمأن الشاعرُ لهدأة الكون من حوله، وبدأ يحفر بالحبر فى الورق، واثقاً كأغلب الشعراء من قدرته المسيطرة على المفردات، القادرة على إعادة بناء العالم، بقصيدة. ولما فاضت عليه سماواته، انساب من قلمه مطلعُ القصيدة والسطرُ الثانى منها، والثالثُ، فكتب:
للزمان أحوالٌ تَحُولُ
وحيرتى، فى ظلمتى، تجوسُ فىَّ
تجتاحُنى.. بل تجرفنى..
■ ■
وماذا بعد الاجتياح والانجراف؟ سأل الشاعرُ نفسه عمّا يجب أن يستكمل به الكلام، فشطَّ عنه الفكرُ وشرد فظلَّ يُفتِّش عن السبب حتى انتبه إلى أن قطةً جائعةً تدور حول قائم كرسيّه، فتصرفه عن مراده وتشوِّش خواطره. طردها عنه بانتفاضةٍ مفاجئةٍ من قدمه، فانصرفت عنه المتطفلةُ وعاد إلى ذاته، فوجد السؤال نفسه جالساً فى رأسه ينتظر إجابة: ماذا بعد الاجتياح والانجراف؟
نصب الشاعرُ قائم ظهره، وملأ صدره بالهواء الآخذ فى الاختلاط بغبار العابرين وعادم سياراتهم، واستعاد رويداً قُدراته الشعرية ثم انكبَّ فجأةً على أوراقه ليكتب بقية القصيدة، لكنه غدا غيرَ واثقٍ من قدرته على استكمالها. بل صار مُرجّحاً أنه سيشطب بعد قليلٍ ما سوف يكتبه بعد معاناة المخاض. واسى نفسه بأنه لا بأس من مداومة الشطب والشطف والحذف؛ فهذه طبيعةُ الإبداع وخصوصية اللغة الشعرية الرهيفة المنفلتة دوماً، مثل خيوط دخان سجائره. وقال فى نفسه إنه سيستمع إلى صوت قلبه، وسوف يدوِّن ما يُملَى عليه من سماوات الإبداع، ولن يشكّ فى مقدرته على الإمساك بزمام القصيدة. ولن يتشوَّش كالأشياء كلها المحيطة به.
لا شىء بعد الاجتياح والانجراف، إلا اندفاق القصيدة، وها هى روحه تحلِّق منذ الأمس فى سماء الكلمات وتمسُّ سقفها، فتأتيه بالمعانى من آفاقها البعيدة. وما عليه الآن إلا صياغة رؤاه العميقة شعراً.. راحت قصيدته تتسلّل من نفسه إلى أوراقه، حتى استعلنت فجأةً وأعلنت عن بدء مخاضها، فكتب منها هذه الأسطر مُعدِّلاً ما سبق أن كتبه:
للزمان أحوالٌ تَحُولُ
تحيِّرُنى
وظُلمتى تجوسُ فىَّ، وتَجُولُ
فتجرفنى إلى محطِّ اللاعودة
واللا وصول
■ ■
ما الذى أريد قوله بعد ذلك؟ سأل الشاعرُ ذاته، فأخذته خواطره إلى بعيدٍ وعَدَتْ عليه فترةُ تردُّدٍ، وخطٍّ وشطبٍ، فتأرجحتْ ثقتُه وبدَّدتْ ما كان يعتقده من اقتراب مولد قصيدته، الجديدة. أشعاره السابقة كان يكتبها كعصفور يصخب فى الصباح، أو مثل ثكلى تسحُّ دموعها شعراً. ولم يتمهَّل يوماً أثناء الكتابة، فيسأل نفسه عن آخرة المسار الذى تسوقه القصيدة إليه.. دفعه الشكُّ والتشوُّشُ إلى إعادة صياغة سؤاله، فجعله: ماذا تريد أن تقول، ويريد الناسُ أن يسمعوه؟
طمأن نفسه بأن عنده كثيراً ليُسمعه للناس عبر أبيات قصيدته: الحيرةُ من تحوّلات الأيام.. الحسرةُ من عبث المسعى.. اليأسُ المريح من تعذيب الأمل. لا، لن أحكى شيئاً من ذلك، والناس لا تحب الحديث عن المحيِّرات والمُحسِّرات لأنها محبطات. وهناك من الموضوعات ما يرتاح الناسُ إن سمعوه، كالأمل فى العثور على محبوبةٍ مخلصة، أو نسيان محبوبةٍ سابقةٍ صارت للغير مخطوبة، أو السخرية غير المريرة من سُخف الأيام المعطوبة. وبهذا صار لديه ثلاث كلمات مسجوعة، سيجعلها أطراف سطور قصيدته «محبوبة، مخطوبة، معطوبة» وعليه إعادة توزيع الكلمات كى يستخرج من انتظامها المعنى، كأن يجعلها على الترتيب التالى: المحبوبة المعطوبة مخطوبة! أو يجعل عبارته الشعرية بعد حشو الثنايا: هذه المعطوبة كانت لى محبوبة، ثم صارت لغيرى مخطوبة..
ما هذا الكلام؟ هذا ليس شعراً، ولن يحبه الناس. وحتى إن وافقَت على نشره المجلةُ الأدبية الوحيدة بالبلاد، فلن يُعجَب به أحدٌ.. قال فى سرّه: لن أهتمّ برضا الآخرين عن قصيدتى، بل سأهتمّ بها لتكون مرضيةً لى. ولسوف يظل المعنى العميق للقصيدة، فى قلب شاعرها. والمعنى التام فى أبياتٍ، لا يُدركه إلا مُبدعها.. ما هذا الخلطُ والتخليط؟
ساعةٌ أخرى عبرت على الشاعر ثقيلة الوطء، بعدها تزايدت من حوله الأصواتُ الصاخبة، فأغمض عينيه ليستعيد صورة محبوبته قبل أن يلحق بقلبها العطب، وسها حيناً ثم استفاق وكتب مجدداً من السطر الأول، بعدما عدَّل المطلع:
للأحبَّة أحوالٌ تَحُولُ
وهُم لا خلاقَ لهم
وذكراهم التى تجوسُ فى ظلمتى الدامسة
وتصولُ
تُحرّك حيرتى فى محبوبتى، فتجتاحُنى
تجذبنى إلى أقاصى المدى
حيث لا عودة، ولا وصول
ولا مأمول
إلّا استعادة غفلتى، وسعادتى
بُطهر الحبيبة الغريبة فى طبعها
وفى ميلها الفطرى لأحضان كل الرجال
■ ■
توقف فى رأسه جريانُ نهر الكلام، لمّا انتبه إلى أن الرمز بالمحبوبة ليعنى بها الوطن هو حيلة شعرية مستهلكة لطالما ابتذلها من قبله الشعراءُ، وعليه أن يسلك من بعدهم مسرباً آخر.. نعم، الأليَق بالقصيدة أن تفاجئ سامعها، فيصير مطلعها: «لهذى البلاد أحوال تحول، ولا ضابط لها»، ويمكن من بعد المطلع أن يناور بالمفردات، فيشتكى صروف الزمان فى وطنٍ يُنهِك أرواح محبيه، مثلما تعتصر المحبوبة الخليعة قلوب عشاقها.
«لا، لن أعود بالشعر إلى المعانى المستهلكة، أو الكلمات»، همس لنفسه وهو يعضُّ بشفتيه مبسم سيجارته، كأنها صارت إصبع الديناميت الذى سينفجر من فوره بالإبداع الشعرى.. نعم، الإبداعُ الشعرى هو انفجارُ المعنى عبر سطور القصيدة، وفى الانفجار لا يمكن حدوث تشابهٍ أو وقوع التكرار، فكلُّ قصيدةٍ تتولّى شقَّ مجراها، وما شاعرها إلا الموهوم الملعوب به، لتتم القصيدة.. الشِّعرُ يمكرُ بالشعراء، نعم، وهواهُ يلعب بهم.
عند دخول المساء وازدحام المقهى بالغافلين، انتبه الشاعر إلى فداحة حاله وأحوال المحيطين، فمال برأسه إلى الحائط لحظةً ثم اعتدل وخلص من الصخب بالغرق فى الفكرة التى اكتملت فى ذهنه، أو كادت، وكان فحواها الآتى: الشعرُ خداعٌ للشاعر والسامع، معاً. وما الوطن إلا نزوعٌ شعرى، يجعل المحبوبة كأنها وطن. وحين يختلط الوهمُ الذى فى القصيدة بالوهم المستريح فى نفوسنا، والمستريحة نفوسنا إليه. وبهذا، يتمُّ المكرُ الشعرى ويمتزج الولاء بالإخلاص، فنظنُّ أن الإخلاص يكون للوطن، والولاءُ حقٌّ للمحبوبة مهما كانت منحرفة أو مخطوبة. ونغفلُ آنذاك مع الغافلين، ونسير كالسائمة الهانئة حتى لو سيقت إلى الذبح ولمحت من بعيدٍ سكيناً يلمعُ.. وهذه القصيدة لن تكتمل أبداً، وشكلها هذا الذى نظنُّه الأخير، ليس أخيراً ولا آخراً ما دام الوهم قد اختلط بالوهم، بقوة المكر الشعرى.
■ ■
بعد انتصافِ الليل وسكونِ ضوضاء النهار، وفُقدانِ ضوئه، جاس الشاعرُ بين الحارات كعنكبوتٍ وحيدٍ عائدٍ إلى بيته المحطمة جدرانه. سار مستسلماً تماماً لفكرته المؤرجحة لرأسه، المطيحة بروحه فى أفق الإفاقة. من غير أن تمنحه، حتى، ترفَ الاندهاشِ من أى شىء. وما الذى عساهُ أن يكون مُدهشاً، بعد اكتشاف عمومية اللاشىء، وإحاطته بنا؟ ما المدهش فى إدراكنا الاختلاف بين المحبوبة النائمة برأسها على مخدّة النوبة التى صارت أرضها بحيرة، المحبوبة الممتدة بقوامها الأخضر المستلقى وسط اصفرار الصحارى، المحبوبة التى تريح قدميها المتباعدتين عند شاطئ البحر، المحبوبة التى كانت من مبتدأ الأمر مخطوبة. وكنّا معها، من المبتدأ إلى المنتهى، ممكوراً بنا؟ كانت المحبوبة التى احترفت خداعنا، تخايلنا طيلة الوقت بنظراتٍ موحيةٍ باللاشىء الذى كنا نظنه شيئاً، وتعدُنا بقصيدةٍ لن تولد أبداً مهما اجتمعت عندنا دواعى الإبداع الشعرى؛ فالشعرُ أمكرُ منّا.. وبإيهامنا بأننا نلعبُ به، وبها، هو الأقدرُ على اللعب بنا، وهى القديرة.
الأربعاء 07-05-2014 22:09
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق