المصدر: الوطن
فى آخر أيام العام الماضى، أخبرَت «إيمان» زميلاتها فى العمل بأنها سوف تطلب إجازة اعتباراً من اليوم التالى، فأثارت بطلبها هذا استغراب زميلاتها العاملات معها بالنَّوبة النهارية فى كافتيريا صالة الوصول بالمطار. هى ليست الكافتيريا الدائرية العامرة بالزبائن، التى فى قلب الصالة، وإنما تلك المنزوية بالركن القصى من صالة الوصول؛ حيث تقل الحركةُ فيندر الزبائنُ. ومع قلّة الأعمال المطلوبة منهنَّ، تسنح لهنَّ فرصةُ الغوص فى التفاصيل التى تهرَّأت مع كثرة الكلام المسلِّى، أحياناً، المُمِلّ غالباً.
زميلتُها المتلوّنة الممتلئةُ البيضاءُ القصيرةُ «نوال»، التى ينادونها طيلة الوقت بـ«نونو»، نصحتها بأن تؤجِّل طلب الإجازة أسبوعاً، حتى ينقضى الزحامُ الموسمى المسمى إجازات رأس السنة، وحتى تضمن موافقة صاحب العمل المتذمّر دائماً «الأستاذ سمير» على الطلب، لكن «إيمان» أصرَّت على ما تريد.
زميلتُها الأخرى «نهلة»، الحسناءُ، الطويلةُ، فوّاحةُ الأنحاء بأنوثةٍ فطريةٍ لا حجبَ لها، ولا سيطرةَ عليها، وهى المسمّاةُ فى كلامهنَّ اليومىِّ «نانا»، سألتها باسمةً عن سرِّ هذا الطلب المفاجئ، وتوقّعتْ أن يرفضه صاحبُ العمل مُحتجّاً بأنها أيامٌ «مفترجة» ولا تجوز الإجازات فيها. وألحّتْ عليها كى تكشف لها مستور الأسرار، لكن «إيمان» أنكرت وجود أىِّ سرٍّ، أصلاً، وأصرَّت على طلب الإجازة.
زميلتُها الأخيرةُ انضماماً إليهنَّ فى العمل، السمراءُ، المُدلّلةُ بينهنَّ بالاسم «نوده»؛ لأن اسمها «نهاد»، مع أن صدرها هابط، لم تُعلِّق بأى كلام على طلب «إيمان» الإجازة ولم تتفاصح فتنصحها بشىء، ولم تستخبر منها عن سرِّ هذا الطلب وسبب إصرارها عليه. لكنها أسرَّت فى نفسها الأسئلة المستفهمة، والخواطر المتدفِّقة مع نهر أفكارها المستترة، التى لو نطقتْ بها لقالتْ: البنت «إيمان» هذه، غامضة، ولا يمكن فهمها مهما اجتهدتْ المُحَاوِلات؛ فهى لا تسهبُ فى أى حديثٍ ولا تخوض مع الخائضات لدفع السأم، وتسرحُ كثيراً بنظراتها فى فضاء الصالة وتتصفّح طيلةَ الوقت وجوهَ الواصلين، كمن ينتظرُ أحداً. وأحوالها عموماً لا تفسير لها. البنات أخبرننى بأنها تعمل هنا منذ سنواتٍ ثلاثٍ، لم تتأخّر فيها يوماً عن موعد نوبة العمل، مع أنها تأتى من بيتها المطمور فى حارة صغيرة بحىِّ «المطرية». ومعروفٌ أن الطريق إلى هنا فى معظم الأيام يزدحمُ، وقد يعوق أحياناً لحاق المسافرين الغرباء بطائراتهم.
والبنات أخبرننى بأن «إيمان» يوم جاءت تطلب وظيفتها هنا، نالتها على الفور وانتظمتْ فى العمل من اليوم التالى مباشرةً، ربما لإشفاق صاحب العمل عليها وشعوره بأنها تحتاج العون ولسوف تكون له شاكرةً، وربما لأنه طمع فيها مثلما يفعل مع كل فتاةٍ يراها مقهورةً ومُحتاجةً إلى صدره الحانى، وربما لأنها كانت إرادة الله موزِّع الأرزاق.
لو كان الأستاذ سمير، الشهوانى بلا حدود، قد نال «إيمان» مثلما حظى بالأخريات العاملات هنا، وأنا بالطبع منهنَّ، لمَا كان قد صبر على غرائب أحوالها وكثرة شرودها، وظل مع ذلك يلاحقها بعينيه الجاحظتين فى معظم الأوقات التى يمرُّ فيها علينا خلال النهار، فيبقى هنا حوالى ساعتين مستمتعاً بمداعبة «نانا» بساخن التعبيرات، ثم يتركنا ويذهب للمرور على «الكافيه» المعمور بالرواد، الذى يديره فى وسط البلد منذ كان شاباً. الأستاذ سمير، نسميه فيما بيننا «المنيِّل» ونُظهر له أمام الناس الاحترام، لكننا عند الانفراد به نتهامس معه بساقط الكلمات التى يحب الاستماع إليها، ولا يملُّ منها أبداً، مع أنه بلغ من عمره الستين. كنتُ فى صِغرى أظن أن الرجل إذا بلغ الستين وجب عليه الاهتمام بلحظة موته المرتقب، لكن هذا «المنيِّل» دلّنى على أن الرجال لا علاج لهم من اشتهاء النساء، ولا دواء. هو يفتخر بأنه ناجحٌ فى عمله، مع أنه تورّط فى عقد إيجار هذه الكافتيريا لخمس سنوات، وما كان يتوقّع كساد الأعمال خلال الفترة الماضية. ولا كان غيره يتوقّع شيئاً مما جرى. وهو يفتخر بأنه أكثر الرجال فهماً للمرأة وحبّاً لها، ويخدع سامعيه بادّعائه الدائم أنه «بيتوتى» لا يبيت خارج منزله، ليكون دوماً بين زوجته وأطفاله. مع أنه يعود إلى بيته قبيل الفجر، نصفَ نائم.. فإذا اطمأن لمن يحدّثها، ليستجلبها إليه، أفاض عليها بالمزيد من نظرياته العجيبة التى منها: معظمُ البنات غير راضيات عن الأسماء التى اختارها لهنَّ الأهلُ؛ لأنهنَّ غير راضياتٍ عن الأهل؛ لذلك تُنادى البنات بعضهنَّ بعضاً بأسماء تدليلٍ لم يختَرها لهنَّ الأهلُ. ولو كانوا قد اختاروا لهنَّ أسماء التدليل هذه، أصلاً، لكانت البنات قد تنادَين فيما بينهنَّ بأسماءٍ غيرها.
فإذا اطمأن «المنيِّل» لمن يُحادثها أكثر، افتخر أمامها بأن اللواتى خلعنَ أمامه ملابسهنَّ تخطى عددهنَّ الألف. وبعد هذا الرقم، كفَّ عن العدِّ. وهو لا يخجل أمام العذراوات من تكرار عبارته الرقيعة: «بعون الله، سكّتى مع كل النسوان مفتوحة على البحرى، وماعرفش حاجة اسمها الفشل».
بعد مرور الأسبوع الأول من تسلمى العمل، واعدنى «المنيِّل» فى شقةٍ مفروشةٍ بائسة الحال، تقع فى شارعٍ جانبىٍّ متفرّعٍ من شارعٍ واسعٍ يتفرّع من طريق المطار، ومن يومها عرفتُ أنه غير قادرٍ إلا على الملاعبة ولا يسعى للإيلاج؛ لأنه يخشى الوقوع فى حدِّ الزنا، حسبما يقول. وبعد أسبوعٍ من تعارفنا سريرياً، صارحنى بأنه يشتهى «إيمان» ولا يستطيع الوصول إليها، مع أنه يسعى إلى نوالها منذ عامين، ومستعدٌّ لبذل أى شىء فى سبيل ذلك، ولو كان الزواج بها عرفياً، مهما اعترضته المشكلات العويصات، وحتى لو كانت «إيمان» غير عذراء. قلتُ له: إن العذرية صارت ميسورةً، وتُباع اليوم فى الصيدليات بثمن بخس. فقال إن ذلك ما عاد يهمّه فى شىء، لكنه يظن أن هناك مشكلة أخرى خفية عند المحروسة. هو يسمى «إيمان» المحروسة، ويتمنّى أن يعرف حارسها ليقضى عليه ويستبيحها لنفسه المتحرّقة اشتياقاً إليها.
بعد مرور شهرٍ على عملى عنده، وخمسةِ أسابيع على علاقتى به؛ طلب منى فى هدأةٍ مسائيةٍ أن أساعده فى الوصول إلى «إيمان»، فاستعفيتُ، فألحَّ، فنصحته بأن يهديها حمّالة صدر، فإن أخذتها منه، يشترى لها بعد يومين ملابس داخلية فاضحة، فإن أخذتها منه، يخبرها من فوره برغبته فى رؤيتها بتلك الملابس، ويعدها بفستان سهرة.. لم تنجح هذه الطريقة، مع أنه بدأ بحمّالة صدرٍ من النوع الغالى (ترينف) الذى تحبه ذوات الصدور المبهجة الممتلئة، من مثيلات «إيمان» اللواتى يليق بهنَّ الحسد.
ماذا أفعل معها؟ سألنى بحرقةٍ، متحسّراً على حاله، فأجبته باختصار: «اطلبها للزواج». وكنتُ واثقةً من أن المحاولة ستنجح، لكن «إيمان» تبجّحتْ ورفضتْ الزواج به عرفياً أو رسمياً. بعد فشله هذا، ورفضها طلبه، جرّب معها كل الوسائل الذكورية المعتادة. اشتكى لها من زوجته التى لا تتزيّن له، وتُهينه أمام أولاده، فلم تتعاطف «إيمان» معه ولم تسمعه بالإنصات المناسب. حاول استمالتها بزيادة راتبها الشهرى بأكثر مما زادت به رواتبنا، فلم تهتمّ وتجاهلت هذا الأمر المهم.. وصل به الحالُ إلى الاحتيال، فاصطنع الجدية وناداها للجلوس معه لأمرٍ مهم على الطاولة المنسية خلف الكافتيريا، وهناك صارحها بسطوة حُبّه لها وقوة اشتياقه إليها، وانهمك فى الحكى، بكى أمامها، فتركته جالساً وانصرفت من أمامه بحجّة أن العمل يحتاجها وألسنة البنات لا ترحم.
■ ■
فور مجيئه، نظر سمير «المنيِّل» باستغرابٍ إلى «إيمان» التى استقبلته بطلب الإجازة، وأحسَّ بما كان قد فقده من الأهمية. تذاكى عليها أول الأمر بأنْ مال بكتفه إلى اليسار قليلاً وسرح بخواطره ليصطنع السيطرة على الموقف، وبعد لحظة صمتٍ مُتبادَل، سألها عن سبب الإجازة فى هذا الوقت فقالت إنه سبب شخصى. تساخف بنبرته وهو يستعلم منها عن مدة الإجازة التى تريدها، فأدهشته بقولها: «أسبوع أو عشرة أيام، أو أكثر إن أمكن».. بلغ به فشلُه الإدارى المدى، وشعر بأن «إيمان» تخرج عن سيطرته فتستحيل أمانيُّه فيها، فاهتاج وهو يقول:
- أفهم من كده إنك ناوية تسيبى الشغل هنا؟
- يمكن، جايز..
- آه، كده بانت، يعنى جالك شغل تانى.. طيب بكام فى الشهر؟
- ما عنديش أى عرض لشغل تانى.
- وبعدين معاكى يا إيمان؟ أنا مش فاضى للكلام ده، وعندى مشاكل كتير.. قولى على طول، انتى عايزة منى إيه؟
- أجازة.
- مش لازم يعنى من بُكرة، ولّا إيه؟
- لأ، لازم.
- بس أنا مش موافق، ولو عايزة تسيبى الشغل خالص، يبقى انتى حرة.
- ماشى، خلاص، ده آخر يوم شغل لىَّ هنا.. مع السلامة.
- مع السلامة ياختى والقلب داعيلك.. كفايانا قرف بقى.
■ ■
تركت «إيمان» العمل بالكافتيريا فى منتصف اليوم، بعد سنوات انتظامٍ حافظتْ عليه منذ جاءت هنا صبيحة أول يومٍ فى الشهر الأول من العام الحادى عشر بعد الألفين. وكان من عجيب أمرها بالنسبة لمن يعرفونها، ولا يعرفونها، أنها كانت طيلة سنوات عملها ملتزمة بما عليها، فلا تكلّ إن جاء زبائنُ وكثر العمل، ولا تملُّ إن ندر جلوسهم على طاولات الكافتيريا. والأعجب من ذلك أنها كانت تجعل يوم راحتها الأسبوعية موافقاً لليوم الوحيد الذى لا تصل فيه طائرةٌ من الكويت. وعندما عدّلوا جدول الطيران، بعد جريان الأهوال، عدّلت موعد راحتها ليتوافق مع يوم راحتهم.
عند خروجها فى غمرة الواصلين والمُستقبلين، كانت الأنحاءُ خارج صالات الوصول والسفر صاخبةً كالمعتاد بحركة المودِّعين والمودَّعين.. وفى وسط الزحام أدركتْ «إيمان» على نحوٍ خفىٍّ أن كلَّ حركةٍ وداعٌ. وعرفت أن آخر خيطٍ كان يربطها بوجودها الحالم، الخادع، قد انقطع، وفهمتْ أخيراً أن كلَّ حالمٍ هو مخدوعٌ أو خادعٌ.
■ ■
لن يعرف أحدٌ سرَّ ما جرى خلال السنوات الثلاث التى عملت فيها «إيمان» بصالة الوصول، أو سبب خروجها من هناك فجأة ثم احترافها مَنح الهوى وتأجير فواكه أرضها.. ولن يعرف أحدٌ أنها الآن مستسلمة للأسى؛ لأنها صارت تُتقن رسم الابتسامات على وجهها فتصير أجمل.
لم تعد المسكينة تذكّر نفسها بالسنوات التى ابتدأت بيوم توديعها لحبيبها الذى زهد شهادته الجامعية ويئس من الحصول على وظيفة، فسافر إلى الكويت ليعمل هناك سائقاً. يومها أخذ معه رحيق حياتها، وكل الأسرار، وترك لها بدلاً منه وعوداً تعلقتْ بها، طويلاً، حتى عرفت فى نهاية المطاف أن كلَّ وعدٍ فيه وعيدٌ بالحرمان.
من يوم سفره لم يتّصل بها! وقد احتاجت سنواتٍ لكى تشكَّ فى الأمر، وتتشكّك فى فحوى وعود المحبوب، وتُدرك أن الذى لم يتّصل لن يصل. يوم وداعها له على مدخل صالة السفر، تحيّرتْ «إيمان» حين غاب حبيبها عن نظرها وانحشر بين الجموع الهاربة من البلاد، فظلت ساعةً تبكيه، ثم أدركتْ أنها لن تفعل شيئاً سوى انتظار عودته، ويومها لمعت برأسها فكرةُ العمل فى صالة الوصول. فبقيتْ منذ الصبح التالى لسفره تعمل فى الكافتيريا وتتصفّح وجوه القادمين من الكويت، وفى غير أوقات العمل كانت تلتقط أخبار الذين هاجروا، وهجروا الأحبّة.. ومضت بها الأيامُ حتى أبلغتها بالأنباء المؤكَّدة، فاندكّت حصونها. ويومها، تركت وظيفتها بصالة الوصول؛ لأن عملها كان قد فَقَدَ عندها معناه، وأىُّ معنًى ذاك الذى سيبقى بعدما تيقّنتْ من عُمق مأساتها؟! لكن «إيمان» كانت قوية بما يكفى لاستسلامها، وقبولها الشواهد الدالة على أن حبيبها الموهوم تعمّد من يوم رحيله عدم الاتصال بها؛ لأنه أصلاً لم يكن ينوى العودة.
الأربعاء 30-04-2014 22:09
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق