الجمعة، 16 مايو 2014

هجيرُ الهجرة



المصدر: الوطن


لا بأس بهذه الغرفة المفردة، فهى نعم المأوى والمحط المريح. صحيحٌ أن جدرانها متقشّرة الطلاء، والطوبُ يطل من زواياها ليذكر الناظرين بأنه كان يوماً مستتراً خلف الحجاب الأسمنتى الرقيق، فاقد اللون. وصحيحٌ أن بابها لا يحكم الإغلاق، وحلقُه يتجافى عن الحائط الممسك به على هون. لكن القطط المتجوّلة لن تقدر على المرور منه، ولن تجرؤ الفئران على السعى فوق سطح العمارة ما دامت هذه القطط تسعى..
صباح اليوم، ودعتنى أمى بدموعٍ صامتةٍ مع أنها لم تُدرك أننى أخرجُ من جوارها بمتاعى القليل، بلا نية فى العودة أو الرجوع يوماً لزيارة الكفر. ولعلها أدركت ذلك بقلب الأم، لكنها لم تفصح عنه بلسان الثكلى. لا أظنها ستجد الفرصة أو الوقت كى تفتقدنى، فبقيةُ إخوتى العشرة سوف يشغلونها عما عداهم، فهى لهم الأم والأب وسائر الأقارب.
خرجت من الكفر بكل ما أملكه من الحياة، ولا شئ معى إلا الحقيبة القديمة المحشورة فيها قطع ملابسى، ومصحفى، والرغيفان. خرجت بلا أملٍ ولا شجونٍ ولا حسرةٍ على سنواتى العشرين التى أمضيتها هنا من دون هدفٍ، أو أحلام، ومن دون إتمام الأمل بالعثور على عمل. وكيف يمكننى إيجاد عملٍ فى «كَفْر» لا أعمال فيه، ولا أمانى. عبثاً سعيتُ لمدة عامٍ، فلم أجد وظيفة بدبلوم الصنايع الذى حصلت بشق الأنفس، فلم يكن أمامى حل سوى الهجرة من الكفر إلى هجير القاهرة، لأندس فى وسط الناس الذين يجدون كل يوم ما يأكلونه. ويقال إنهم يهنأون بمتع كثيرة لا يعرفها أهل الكفور، والمراكز، والمحافظات التى بقلب الدلتا وأطرافها.
ظهر اليوم وصلت إلى العنوان الذى أعطانيه عمى، القعيد، فالتقيتُ رفيقَ صباه «الأسطى حمادة» كهربائى السيارات، الذى أسكننى هذه الغرفة القائمة فوق سطح البيت، وأوصانى بالنزول منها مبكراً لأبدأ أول أيام عملى فى ورشته، حيث سأتعلم صنعةً آكل منها الشهد. هكذا قال لى، بثقةٍ، فصدقت.
فى الغرفة كهرباءُ مسروقة من عمود النور القريب، بسلكٍ قديم، تُضئ لمبةً واحدة تتأرجح إذا فتح الباب. وفيها صنبورُ ماء شحيح، يسحُّ فى الليل ويجف فى النهار لارتفاع طوابق البيت الثلاثة، وتعاليها على قوة اندفاع الماء. وفيها دكةٌ متآكلةُ الأطراف، مُلقى عليها بطانية قديمة، تغرى بالنوم.. ساعة الغرب قلت فى نفسي: لا بأس بهذه الغرفة المفردة، فهى نعم المأوى والمحطّ المريح.
* * *
ليلُ القاهرة دافئٌ حين ينتصف فيُخمدُ الأنفاس بعد نهارٍ هارٍ، ويبقى مترقّباً يوماً جديداً لن يكون فيه، غير ماكان بالأمسين القريب والبعيد. يوم وصولى، وقبل صعودى إلى الغرفة، بقيتُ فى الورشة وقتاً تملؤه الحيرة من كثرة الناس والمشاهد وطريقة الكلام. الصنايعى المعاون للأسطى حمادة، لاسعٌ، وينادونه باسمٍ عجيبٍ «أبلاتين» ولا يتكلم كأهل الكفر. سألته عن اسمه الأصلى فقال إنه نسيه منذ زمن، وسألته عما يجب أن أفعله غداً فى الورشة من مهام فقال إن الأسطى سيخبرنى، وسألته عن الفترة التى يمكننى فيها التقاط الصنعة فقال إن الله هو المسهل لكل الأمور.
فى يومى الأول الشبيه بالأخير، صحوتُ فى الصباح الباكر وهبطتُ الدَّرَج بهمةٍ طارحاً عنى كل الهموم. بدأت أوقاتى القاهرية بكنس الورشة ومسح بلاطها المتسخ بماءٍ وفيرٍ، حتى لمع. «أبلاتين» اندهش حين جاء بعد انتهائى من أعمال النظافة، بساعتين، وأجال وجهه فى المكان وعلى شفتيه ابتسامةٍ ساخرةٍ. سألته عن سر تبسُّمه واندهاشه، فأخبرنى بأنه فعل فى يومه الأول ما فعلته فى يومى الأول. ثم أدرك بعد سنين أن هذا التنظيف لا طائل من ورائه، لأن الورشة من طبيعتها أنها تتسخ. قلتُ من فورى إننى سأنظفها كل يوم صباحاً، فهزَّ رأسه وهو يقول إنه أيضاً نوى ذلك، فى أول يوم عمل فيه بالورشة قبل عشرة أعوام.
يومها، ساعة أذان الظهر، جاء الأسطى فأسعده أننى نظفت الورشة. عيناه قالت ذلك. جلس الأسطى يحتسى شايه، وينتظر أول سيارة تشكو من عطل كهربائى أو عطب يحتاج إصلاحاً.. فى نهاية يومى الأول عرفت أشياء كثيرة، ظننتها يومها مذهلة، ثم عرفت أن معظم الناس تعرفها. منها أن ضعف الضوء فى مصابيح السيارات يصلحه تغيير اللمبات المسماة «برادوسة» أو ضبط الأزرار الطويلة المسماة «الكتاوات» أو شحن بطارية السيارة، أو مفاجأة صاحبها بأنها تحتاج بطارية جديدة. وهى مفاجأة غير سارة. وعرفت أن الأسطى يأتى لنا ساعة العصر بثلاث علب من الكشرى، وهو خليط لذيذ من أشياء كثيرة، كنت أسمع فى الكفر أن القاهريين يأكلونه كل يوم. وعرفت أن الورشة تنغلق فى التاسعة مساءً، ما لم تكن هناك سيارة تحت الإصلاح، وأن «أبلاتين» هو الذى يقوم بكل الإصلاحات وأن الاسطى هو الذى يأخذ من الزبائن المال المطلوب. سائقو التاكسى هم أراذل الزبائن. فهم يفهمون عادةً سبب العطب فى سياراتهم ويُفاوضون فى أجرة الإصلاح. أما أصحاب السيارات الملاكى، فلأنهم يحتارون فى أعطالهم، يفرحون بالإصلاح ويدفعون الأجرة بلا لجاج.. وعرفت بعد أيامٍ أن اكتساب الصنعة، يلزمه صبرٌ وأعوامٌ طوال. وأن «أبلاتين» يحلم منذ سنوات بالسفر إلى دول الخليج، ويعوقه عن ذلك أن صنعته لم تعد ذات نفع هناك، وهو يسعى إلى الهجرة إلى إيطاليا مثلما فعل صديقه القديم الذى ذهب إلى هناك ولم يعد من يومها، لأنه وجد عملاً فى محل «بيتزا» ووجد فتاة تعيش بغرفته دون أن تأخذ مهراً، ووجد الاحترام من الناس.وعرفت أن الأسطى يعيش منذ طلق امرأته فى تعاسةٍ جعلته لا يفكّر فى الزواج مجدداً، اتقاءً للمزيد من البؤس، وهو يحلم منذ سنوات بالعودة إلى قريته الأولى التى كان أبوه يعمل فيها مزارعاً، وكان فى صغره يعاونه، لكن القرية لم تعد تزرع. وأنه يسعى إلى الهجرة من القاهرة إلى الريف مثلما فعل صاحب الورشة السابق، رحمه الله.
فى الليالى القاهرية التى تتالت متسارعةً، عرفت أننى مثل بقية أهلها سوف أسرف فى الحلم حتى أفقد الذاكرة. فأسرفت، وحلمت بأننى سوف أتقن الصنعة بعد عشرة أعوام، وسوف أتمنى السفر إلى الخليج لكن صنعتى لن تكون ذات نفع هناك، وسوف أصبو إلى الهجرة إلى إيطاليا مثل ذاك الذى ذهب إلى هناك ولم يعد، وبعد عشرين سنة سأمتلك هذه الورشة وأصير أسطى، وسأطلق زوجتى التى لم أرها بعد، و سأعيش فى تعاسةٍ سوف تمنعنى من الزواج مجدداً، اتقاءً لمزيد من البؤس. وسأحلم بالعودة إلى الكفر الذى اختفى من حوله الاخضرارُ، وأظل أتمنى الهجرة من القاهرة إلى ريفٍ لم يعد موجوداً إلا فى الخيال.
* * *
مرت السنوات العشرون، سريعاً، فكأننى جئت إلى القاهرة قبل يومٍ أو بعض يوم.. ولا زلت أذكرُ ليلتى الأولى بالغرفة التى سكنت فيها فوق سطح البيت القديم، كأننى بتُّ فيها لأول مرة ليلة أمس، فكانت لى نعم المأوى والمحطّ المريح . ولا زلت أذكر الأسطى «حمادة» رحمه الله، كأننى رأيته لأول مرة صباح اليوم. ولا زلت أشعر بدفء الليالى القاهرية التى المسخنة أنفاس ملايين النائمين فى مبان متلاصقة، والمثخنة بوخزات النهار الهارى.. وبعد مرور السنوات العشرين، فهمتُ أن القاهرة مأوى للمهاجرين إليها والمهاجرين منها.. فهم يقيمون فيها، وفيها ولا يقيمون، وبها لا يقومون.
الأربعاء 14-05-2014 21:58

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق