خلال السنوات الطوال التى عرفتُ فيها "د. محمد يسرى سلامة" عن قرب، وقعت معنا عدةُ أمورٍ غير اعتيادية. ولسوف أقصُّ فيما يأتى بعضاً منها، لعلها تُلقى بعض الضوء الكاشف على الجانب الإنساني من حياته القصيرة، الثرية.
بعد فترةٍ من عمله معي بمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، لاحظتُ الإجهاد الشديد البادي على وجه "محمد يسرى سلامة" ولمّا سألته عن سبب ذلك، أجاب بأنه حين ينتهي من العمل بالمكتبة، يذهب إلى العيادة ليمارس عمله فى عيادته، كطبيب أسنان، فيقضى فيها وقتاً طويلاً. مع أنه لا يحظى بمرضى كثيرين، لكنه يضطر للبقاء حتى انتهاء فترة العمل بالعيادة. ثم يقضى الليل فى تحقيق مخطوطات "ابن تيمية" التى كان يحلم بأن ينشرها كلها محقّقة، وكان قد نشر بالفعل بعضها.
اقترحتُ عليه أن يُغلق العيادة، ما دامت غير مجدية، ويعطى وقتها لتحقيق مخطوطات فى تاريخ الطب. وذكَّرته بما قاله لى يوم جاءني أول مرة فى المكتبة، حينما أخبرني بأنه لا يحب طب الأسنان، وقد التحق بهذه الكلية إرضاءً لوالديه، لكنه يريد التفرغ للعمل التراثي وتحقيق المخطوطات. سرح لحظةً بخواطره ثم قال: والظروف المالية؟ قلت: ستأتيك ترقيةٌ قريباً، وسيزداد راتبك معها ومع الزيادة السنوية للرواتب بنسبة خمسة عشر بالمائة.
أغلق العيادة، بعد أسابيع قليلة وقعت له حادثةٌ مؤسفةٌ أدّت إلى بتر أصابع يده اليسرى. وعندما عاد من الإجازة المرضية، جاءني كعادته بعد وقت الدوام الرسمي لنجلس هنيهةً معاً، وأعرب لى عن استغرابه من نصيحتي له بإغلاق العيادة، فى هذا التوقيت، ثم وقوع الحادثة التى تمنعه من ممارسة طب الأسنان. وابتسم لأول مرة منذ وقعت له الحادثة، وهو يقول ما نصه: يا دكتور، ده شغل تصوف جامد!. قلتُ له إنها مصادفة، فقال وقد عادت إليه ضحكته: يبقى شغل فلسفة، والعياذ بالله.
كان محمد يسرى سلامة، كسلفي عتيدٍ، لا يحب الصوفية والفلاسفة. لأن ابن تيمية لم يكن يحبهما. ومع ذلك، كان لا يستطيع إخفاء إعجابه بكلام بعض الصوفية، ثم يستدرك فيقول: أستغفر الله. ويضحك.
سألته يوماً: كيف ترى عبدالقادر الجيلانى؟ فقال: إمام جليل، وشيخنا ابن تيمية شرح أحد كتبه. قلت: لكنه صوفي عظيم. قال: العظمة لله! قلت: لا تراوغ. قال ما نصه: والله هىَّ حاجة تحيَّر فعلاً.
وكان يحتفظ على جهاز الكمبيوتر، بكمٍّ كبيرٍ من الكتب المحفوظة على هيئة ملفات. وكلما بحثنا عن معلومة دقيقة، يُسرع إلى جهازه فيأتي بها قبل بقية زملائه الآخرين. وقد طلبتُ منه يوماً أن يريني هذه الملفات، فأدهشني هذا الكم الهائل من الكتب، وأدهشني أكثر أنه يضع الكتب الفلسفية والصوفية تحت عنوان "كتب مذمومة". أردت منه أن ينقل هذه الملفات الوفيرة إلى أجهزة زملائه، كى تعمَّ الفائدة، فرفض بلطفٍ وقال ما معناه: هذا جهدي الفردي خلال سنوات طويلة، وليس لغيري حق فيها. قلت: مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا! قال: هذا كلام المسيح، وقد أكرمنا الله بدين الإسلام وبالأحاديث الشريفة. وضحك كالطفل حتى مال ظهره للوراء، كعادته حين يبتهج.
بعد فترة لم تطل، دخلتُ مكتبه فوجدته قابعاً بين تلال الحزن وتكاد عيناه تدمعان. استفهمت منه عن حال حزنه، فلم يستطع الجواب. ردَّ علىَّ زميله المجاور له فى غرفة المكتب، بأن جهاز محمد يسرى سلامة أصابه "فيروس" فانمحت كل الملفات التى كانت محفوظة، بما فيها ملفات الكتب. ويومها، فى اجتماع مع قسم "الأنشطة الأكاديمية" الذى كان د. محمد يسرى سلامة يعمل فيه، اتفقنا على أن يشارك كُلٌّ منهم الآخرين كتبه ومعلوماته، وأن يقوم "محمد يسرى" فى الفترة المقبلة بتحقيق مخطوطة "كتاب شاناق فى السموم والترياق". وقد انهمك فى هذا العمل شهوراً، ولكنه لم يتمه، لأن ثورة يناير اندلعت.
ثار محمد يسرى سلامة مع الثائرين، وأطلق لاحقاً لحيته، ولعب دوراً كبيراً فى المظاهرات التى جابت أنحاء الإسكندرية. ولما أتيح إنشاء الأحزاب السياسية أسَّس مع أوائل المؤسسين "حزب النور" وصار أول متحدِّث رسمي باسم الحزب. وفى يوم رأيته حزيناً، وباح لى بأنهم فى الحزب، يريدون إشراك متحدث آخر معه (نادر بكار) ويكون كلاهما: متحدِّثا رسميا. هززتُ رأسي، وتركته عند مدخل مركز المخطوطات ومضيتُ خارجاً (كنت غير مستريح لانهماكه السياسي) فلحق بى عند الباب وسألني: بماذا تنصحني؟ قلتُ: اترك السياسة العملية، وعُد إلى العمل العلمي.
كان وقت هذه النصيحة قد تأخر، فلم تعد ذات فائدة. ففي تلك الفترة كان "محمد يسرى سلامة" قد انهمك فى العمل الثوري، والسياسي، وبدأت تلوح فى الأفق مقدمات ميلاد حزب الدستور الذى صار لاحقاً أحد مؤسسيه الأوائل. هذا فى الدائرة الأوسع (الحال المصري العام) وأما فى الدائرة الضيقة، فقد صار محمد يسرى سلامة "الثائر، المحبط، الذى لم يعد ضحوكاً" يُعادى المدير العام للمكتبة، ويتّهمه بالفساد والإفساد وسقوط النخوة والهيبة اللازمة للإدارة، فكان يقود مظاهرات الموظفين ضد المدير العام. ثم اشتد العداءُ حتى بلغ غايته يوم قاد الموظفين الثائرين واقتحم مكتب المدير العام، فقفز الأخير من الشباك محمولاً على أكتاف العساكر. وتركتُ فى اليوم التالي المكتبة، ولم أر بعدها "محمد يسرى سلامة" إلا مرةً واحدة. كان يقود أمام المكتبة مظاهرة، ويهتف بأعلى صوته فى الشارع: عَلى وعَلى وعَلى الصوت، اللى بيهتف مش هايموت.
يومها، أرسلتُ له على الموبايل رسالةً تقول ما نصها: "هذا لا يليق بك!". وبعد فترة وجيزة، قيل لى إن صحته تتدهور بسرعة، ويفقد وزنه بشكل كبير غير مُطمئنٍ، ويشحب لونه، ويترنَّح فى مشيته. وبعد أيامٍ قليلة مات فجأةً، ولم يُعرف السبب الحقيقي لوفاته.
وتبقى هنا إشارةٌ أخيرة:
حين نُشرت المقالة السابقة، راسلني بعضهم معترضاً على الطريقة التى تم بها تعيين د. محمد يسرى سلامة بمكتبة الإسكندرية ليعمل معي فى التراث والمخطوطات، مع أنه خريج طب الأسنان! وقال المعترضون إن فى هذا الأمر شُبهة مجاملة، لأن أباه كان بالنسبة لى أستاذاً وصديقاً، وأمه شاعرةٌ سكندرية معروفة. فرددتُ على مَن اعترض، بأن العمل التراثي يحتاج تخصصات مُختلفة لأن التراث العربي، منه ما هو "تراثٌ طبي"، ولابد لمن يعمل فى هذا المجال أن يكون عارفاً بالطب. وكان محمد يسرى سلامة من قبل أن يعمل معي، قد حقّق ونشر كتابين من تراث ابن تيمية، مما يدل على تمكُّنه من الخبرة التراثية. وقد التحق بالعمل بعد سنوات طوال من وفاة أبيه، والسيدة والدته لم تكن تربطني بها صلة قوية، ولم أرها فى حياتي إلا مرةً كانت تلقى فيها شعراً، ومرةً يوم نقلت لى رغبته فى العمل معي بمجال التراث والمخطوطات.
لماذا صار كثيرون منا يسارعون إلى "الاتهام" قبل الفهم!.
بعد فترةٍ من عمله معي بمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، لاحظتُ الإجهاد الشديد البادي على وجه "محمد يسرى سلامة" ولمّا سألته عن سبب ذلك، أجاب بأنه حين ينتهي من العمل بالمكتبة، يذهب إلى العيادة ليمارس عمله فى عيادته، كطبيب أسنان، فيقضى فيها وقتاً طويلاً. مع أنه لا يحظى بمرضى كثيرين، لكنه يضطر للبقاء حتى انتهاء فترة العمل بالعيادة. ثم يقضى الليل فى تحقيق مخطوطات "ابن تيمية" التى كان يحلم بأن ينشرها كلها محقّقة، وكان قد نشر بالفعل بعضها.
اقترحتُ عليه أن يُغلق العيادة، ما دامت غير مجدية، ويعطى وقتها لتحقيق مخطوطات فى تاريخ الطب. وذكَّرته بما قاله لى يوم جاءني أول مرة فى المكتبة، حينما أخبرني بأنه لا يحب طب الأسنان، وقد التحق بهذه الكلية إرضاءً لوالديه، لكنه يريد التفرغ للعمل التراثي وتحقيق المخطوطات. سرح لحظةً بخواطره ثم قال: والظروف المالية؟ قلت: ستأتيك ترقيةٌ قريباً، وسيزداد راتبك معها ومع الزيادة السنوية للرواتب بنسبة خمسة عشر بالمائة.
أغلق العيادة، بعد أسابيع قليلة وقعت له حادثةٌ مؤسفةٌ أدّت إلى بتر أصابع يده اليسرى. وعندما عاد من الإجازة المرضية، جاءني كعادته بعد وقت الدوام الرسمي لنجلس هنيهةً معاً، وأعرب لى عن استغرابه من نصيحتي له بإغلاق العيادة، فى هذا التوقيت، ثم وقوع الحادثة التى تمنعه من ممارسة طب الأسنان. وابتسم لأول مرة منذ وقعت له الحادثة، وهو يقول ما نصه: يا دكتور، ده شغل تصوف جامد!. قلتُ له إنها مصادفة، فقال وقد عادت إليه ضحكته: يبقى شغل فلسفة، والعياذ بالله.
كان محمد يسرى سلامة، كسلفي عتيدٍ، لا يحب الصوفية والفلاسفة. لأن ابن تيمية لم يكن يحبهما. ومع ذلك، كان لا يستطيع إخفاء إعجابه بكلام بعض الصوفية، ثم يستدرك فيقول: أستغفر الله. ويضحك.
سألته يوماً: كيف ترى عبدالقادر الجيلانى؟ فقال: إمام جليل، وشيخنا ابن تيمية شرح أحد كتبه. قلت: لكنه صوفي عظيم. قال: العظمة لله! قلت: لا تراوغ. قال ما نصه: والله هىَّ حاجة تحيَّر فعلاً.
وكان يحتفظ على جهاز الكمبيوتر، بكمٍّ كبيرٍ من الكتب المحفوظة على هيئة ملفات. وكلما بحثنا عن معلومة دقيقة، يُسرع إلى جهازه فيأتي بها قبل بقية زملائه الآخرين. وقد طلبتُ منه يوماً أن يريني هذه الملفات، فأدهشني هذا الكم الهائل من الكتب، وأدهشني أكثر أنه يضع الكتب الفلسفية والصوفية تحت عنوان "كتب مذمومة". أردت منه أن ينقل هذه الملفات الوفيرة إلى أجهزة زملائه، كى تعمَّ الفائدة، فرفض بلطفٍ وقال ما معناه: هذا جهدي الفردي خلال سنوات طويلة، وليس لغيري حق فيها. قلت: مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا! قال: هذا كلام المسيح، وقد أكرمنا الله بدين الإسلام وبالأحاديث الشريفة. وضحك كالطفل حتى مال ظهره للوراء، كعادته حين يبتهج.
بعد فترة لم تطل، دخلتُ مكتبه فوجدته قابعاً بين تلال الحزن وتكاد عيناه تدمعان. استفهمت منه عن حال حزنه، فلم يستطع الجواب. ردَّ علىَّ زميله المجاور له فى غرفة المكتب، بأن جهاز محمد يسرى سلامة أصابه "فيروس" فانمحت كل الملفات التى كانت محفوظة، بما فيها ملفات الكتب. ويومها، فى اجتماع مع قسم "الأنشطة الأكاديمية" الذى كان د. محمد يسرى سلامة يعمل فيه، اتفقنا على أن يشارك كُلٌّ منهم الآخرين كتبه ومعلوماته، وأن يقوم "محمد يسرى" فى الفترة المقبلة بتحقيق مخطوطة "كتاب شاناق فى السموم والترياق". وقد انهمك فى هذا العمل شهوراً، ولكنه لم يتمه، لأن ثورة يناير اندلعت.
ثار محمد يسرى سلامة مع الثائرين، وأطلق لاحقاً لحيته، ولعب دوراً كبيراً فى المظاهرات التى جابت أنحاء الإسكندرية. ولما أتيح إنشاء الأحزاب السياسية أسَّس مع أوائل المؤسسين "حزب النور" وصار أول متحدِّث رسمي باسم الحزب. وفى يوم رأيته حزيناً، وباح لى بأنهم فى الحزب، يريدون إشراك متحدث آخر معه (نادر بكار) ويكون كلاهما: متحدِّثا رسميا. هززتُ رأسي، وتركته عند مدخل مركز المخطوطات ومضيتُ خارجاً (كنت غير مستريح لانهماكه السياسي) فلحق بى عند الباب وسألني: بماذا تنصحني؟ قلتُ: اترك السياسة العملية، وعُد إلى العمل العلمي.
كان وقت هذه النصيحة قد تأخر، فلم تعد ذات فائدة. ففي تلك الفترة كان "محمد يسرى سلامة" قد انهمك فى العمل الثوري، والسياسي، وبدأت تلوح فى الأفق مقدمات ميلاد حزب الدستور الذى صار لاحقاً أحد مؤسسيه الأوائل. هذا فى الدائرة الأوسع (الحال المصري العام) وأما فى الدائرة الضيقة، فقد صار محمد يسرى سلامة "الثائر، المحبط، الذى لم يعد ضحوكاً" يُعادى المدير العام للمكتبة، ويتّهمه بالفساد والإفساد وسقوط النخوة والهيبة اللازمة للإدارة، فكان يقود مظاهرات الموظفين ضد المدير العام. ثم اشتد العداءُ حتى بلغ غايته يوم قاد الموظفين الثائرين واقتحم مكتب المدير العام، فقفز الأخير من الشباك محمولاً على أكتاف العساكر. وتركتُ فى اليوم التالي المكتبة، ولم أر بعدها "محمد يسرى سلامة" إلا مرةً واحدة. كان يقود أمام المكتبة مظاهرة، ويهتف بأعلى صوته فى الشارع: عَلى وعَلى وعَلى الصوت، اللى بيهتف مش هايموت.
يومها، أرسلتُ له على الموبايل رسالةً تقول ما نصها: "هذا لا يليق بك!". وبعد فترة وجيزة، قيل لى إن صحته تتدهور بسرعة، ويفقد وزنه بشكل كبير غير مُطمئنٍ، ويشحب لونه، ويترنَّح فى مشيته. وبعد أيامٍ قليلة مات فجأةً، ولم يُعرف السبب الحقيقي لوفاته.
وتبقى هنا إشارةٌ أخيرة:
حين نُشرت المقالة السابقة، راسلني بعضهم معترضاً على الطريقة التى تم بها تعيين د. محمد يسرى سلامة بمكتبة الإسكندرية ليعمل معي فى التراث والمخطوطات، مع أنه خريج طب الأسنان! وقال المعترضون إن فى هذا الأمر شُبهة مجاملة، لأن أباه كان بالنسبة لى أستاذاً وصديقاً، وأمه شاعرةٌ سكندرية معروفة. فرددتُ على مَن اعترض، بأن العمل التراثي يحتاج تخصصات مُختلفة لأن التراث العربي، منه ما هو "تراثٌ طبي"، ولابد لمن يعمل فى هذا المجال أن يكون عارفاً بالطب. وكان محمد يسرى سلامة من قبل أن يعمل معي، قد حقّق ونشر كتابين من تراث ابن تيمية، مما يدل على تمكُّنه من الخبرة التراثية. وقد التحق بالعمل بعد سنوات طوال من وفاة أبيه، والسيدة والدته لم تكن تربطني بها صلة قوية، ولم أرها فى حياتي إلا مرةً كانت تلقى فيها شعراً، ومرةً يوم نقلت لى رغبته فى العمل معي بمجال التراث والمخطوطات.
لماذا صار كثيرون منا يسارعون إلى "الاتهام" قبل الفهم!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق