الخميس، 19 يونيو 2014

منظومة القيم المصرية (الحرية)


فى مقالة الأربعاء الماضى، أشرنا إلى معانى «عنوان» هذه المقالات السبع، وإلى خطورة اهتراء منظومة القيم. 
وكلامُنا اليوم سيكون عن «قيمة» مهمة تتداخل بطبعها مع بقية القيم لتحقيق تكامل المنظومة القيمية السائدة فى المجتمع، أو تنفصل عنها فيكون انفصالها سببٌا لاهتراء هذه المنظومة. وهو اهتراءٌ ينذر أىَّ منظومة قيمٍ، بالانهيار التام.. ولا بد هنا من«إشارةٍ» إلى أننى أخطُّ هذه السطور بقلبٍ دامٍ، متألم، لما يجرى حالياً فى العراق على يد الجماعات الدينية المسلحة المسماة : داعش.. (وهذا ليس ببعيدٍ عما نتحدث فيه،بل يرتبط به أشد الارتباط).
طيب.. عندما اندلعت الأمور فى نهاية يناير 2011 رفع المصريون شعارات ثورية لم يدقِّقوا فى معانى مفرداتها وساروا وراءها كأنها نشيد المجد الثورى، ثم ظهر أنها نشيجُ انعدام الوعى. وكان من أشهر تلك الشعارات اثنان، أحدهما فصيح، والآخر عامىِّ قريبٌ من الألفاظ الفصيحة . كان الشعار الأول هو «الشعب يريد إسقاط النظام» وقد أفضتُ سابقاً فى الكلام عن المخاطر التى أحدقت بنا، بسبب عدم وعينا بدلالة كلمة«النظام» وكيف أنها تشتمل على الحكم والمعارضة، معا.. ويمكن مراجعة تفاصيل ذلك فى كتابى: فقه الثورة. وكان الشعار الآخر، الأخطر، هو: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».. ولن أتحدث هنا عن «العيش» الذى هو مطلب للجائعين والشحاذين، لا الثوار! ولن أتوقف عند المفهوم المطاط للعدالة الاجتماعية، وهو مفهوم طالما تم استعماله سياسياً لخداع الفقراء من الناس، مع أنه نظرياً من المفاهيم الاجتماعية النبيلة. وإنما سنتكلم فيما يلى،فقط، عن الكلمة الوسطى: الحرية.

لا يعرف الحرية إلا الإنسان، لأن بقية الكائنات تعمل وفق طبيعتها الأساسية ذات الطابع الجبرى، حسبما قال الشاعر: فلا النسر يمشى، ولا البشرىّ يطير! فمن حيث الجانب الحيوانى، يلتزم كل كائن بما يكمن فيه من برنامج داخلىٍّ لازم لكل أفراده، فلا الغراب يمكنه أن يكون رشيقاً ولا الببغاوات تستطيع أن تصير سخيفة.. لن يكون الأسد رقيقاً، ولن يُمسى الغزال شرساً !

أما الإنسان، فلأن له عقلٌ وفيه خيالٌ، فإنه يختار. والاختيارُ هو اختبار الحرية، وهو مظهرها الأول ودليلها الوحيد.. ولطالما انخدع الناسُ فى مصر، بمن خادعوهم بمفرداتٍ مشتقة من «الحرية» التى هى واحدة من أهم السمات الإنسانية، فراجت من غير مراجعة تعبيرات مثل: الشعب الحر، حرية الشعوب، حركات التحرر، ميدان التحرير.. إلخ.

ولأن الأشياء تُعرف بأضدادها، ولا يمكن فى كثير من الأحيان إدراك شىء إلا بإدراك نقيضه، فإنه يصير من العسير تعريف (الحرية) لأن عكسها غير محدَّد! هل هو«القهر» أم «الحبس» أم «الالتزام» أم «التحكم» أم «الجبرية» أم ماذا بالضبط.. إن صعوبة تحديد المضاد الدلالى للحرية يجعل من العسير تعريفها، وبالتالى فإن ذلك يفتح المجال واسعاً أمام مالا حصر له من المعانى المرادة من لفظ «حرية». وقد بلغ الخلطُ والاضطراب الدلالى لكلمة «الحرية» مبلغاً مُبالغاً فيه، مما سمح باستغلالها على نحوٍ رخيص، وبشع. ففى الوقت الذى كانت الناصرية، مثلاً، ترفع شعارات الحرية والتحرر والتحرير وغير ذلك من مشتقات هذه الكلمة النبيلة، كان معظم المعارضين للحكومة فى المعتقلات، وكان ضبطهم وحبسهم يجرى كثيراً بلا تمييز، لدرجة أن أمر الاعتقال آنذاك كان يصدر بصيغة: يعتقل «فلان» ومن يلوذ به.. ومن هنا صودرت الحريات جميعها السياسية ( لأنه لا توجد أحزاب) والاقتصادية (لأن الثروات للشعب)والفكرية (لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) والفنية (لأن الالتزام بقضايا المجتمع ضرورى) والسلطوية (لأنه لا مرشح رئاسى، إلا الرئيس).

ولأن الخداع لذيذ، وكثيرٌ من الناس يحبون أن يُخدعوا (ثم بعد ذلك يبكون) فقد استعمل«الحرية» أغلب الناس الذين يخادعون الآخرين، فرأيناهم يتحدثون مثلاً عن: الحرية فى الإسلام، حرية المرأة فى الإسلام، دعوة الإسلام لتحرير العبيد، حرية الاعتقاد فى الإسلام! واستدلوا على كذبهم بالآية الكريمة: «مَنْ شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». والدين الإسلامى، لأنه فى نهاية المطاف «دينٌ» فهو يدعو مثل كل دين إلى عبودية الفرد لله، ولظل الله فى الأرض (الحاكم).. والآية التى يستشهدون بها، منتزعةٌ بقسوة من سياقها! فقبلها مباشرة قوله تعالى «وقل الحق من ربكم» وبعدها مباشرة «إنَّا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمهل يشوى الوجوه».

إذن.. بوعى أو بدون وعى،رفع المصريون «الحرية» شعاراً لثورتهم من دون ضبط لدلالة هذه الكلمة، القيمة، وبيان ارتباطها ببقية القيم التى يجب أن تتناغم فى«منظومة» واحدة. فماذا كانت النتيجة؟.. حالة فوضى عارمة، وخبلٍ عام، وتصرفاتٍ ليست مسئولة. ليس فقط على مستوى الجماعات السياسية غير المنضبطة مثل(حازمون) و(6 أبريل) الذين زحفوا على وزارتى الداخلية والدفاع، فكان الموتُ من نصيبهم، والفجيعة على الشباب من نصيبنا.. وليس فقط على مستوى الشباب الجامعى الذى ترك الدراسة وراح يزعق فى «الحرم» الجامعى بعبارة جوفاء، كانوا أيضاً يشوِّهون بها الجدران، منها تلك القولة السفيهة التى رأيتها أيامها تلطّخ الجدران الداخلية للجامعات: «عايز حقى يا بلد».. وليس فقط على مستوى أهل السبهللة الذين ظلوا يصخبون ليل نهار، بالمفردات الثورية والعبارات الطنّانة: «ثورة حتى النصر».. من دون تحديدٍ دقيقٍ للمقصود بالنصر (هل هو هدم جهاز الشرطة، مثلاً) والمراد أصلاً بالمعركة!

وقد تعدَّى اضطراب مفهوم (الحرية) كل ما سبق ، حتى صار سلوكاً فردياً مستهدف الحالات الفردية.. فمن ذلك: قبل شهور تزوج إعلامى كبير، فاهتاجت شبكة التواصل الاجتماعى على الإنترنت (الفيسبوك) بصفحات وصفعات الهجوم الكاسح، على الرجال الكبار الذين يتزوَّجون البنات الصغيرات. مع إننى أعرف أن هذه «الزوجة» تخطَّت الأربعين من عمرها، لها ابنة فى الصف الثالث الإعدادى! وقبل شهر تزوَّج عصفور الكناريا المصرى الذى ظل يغنى لنا أربعين سنة، فإذا بالشباب يمارسون حريتهم فى نقده وشتمه وتسويد أيامه، لأنه تزوج فتاةً صغيرة.. ولا بد أنه تألم لذلك (أنا لم أعرفه، ولكننى أسمعه كثيراً) والعجيب أن السيدة التى تزوَّج بها، عمرها ما بين الأربعين والخمسين. والأعجب، أن معجبيه لم يلحظوا أنه مارس أبسط حقوقه فى «الحرية» التى طالما نادت بها بلادنا «الثائرة» من دون أن تدرك معناها.

وهناك كثيرٌ من تلك الأمثلة التى تدل على عدم إدراك الشباب لمفهوم الحرية، وهو ما أدَّى بهم إلى واحدٍ من أخطر نقائض الحرية وأضدادها، وهو التعدى على الآخرين ومصادرة حريتهم الشخصية، دون أدنى شعور بذنبٍ أو حَرَج.

وإذا كانت المعانى تُعرف بأضدادها وتتحدّد، فإن: التعدى، القهر، الاعتقال، الحبس، الالتزام، الضبط.. كلها معانٍ مضادة للحرية، ولذلك فإن معنى الحرية واسع ومتعدِّد المستويات، ومن هنا كانت له «مُضادات» كثيرة . ولابد لنا ونحن بصدد «إعادة بناء منظومة القيم» أن نحدِّد بدقة ما نقصده فى أيامنا هذه (المفصلية) من كلمة الحرية، حتى نلتزم بمفهومٍ محدَّد لها، يسمح بتناغمها مع بقية القيم السائدة فى المجتمع. وإلا، بلغت حرية المتحررين المدى، وصار كل فرد يفعل ما يرى أنه حق له.. فتصير مصر مثل: ليبيا (الحرة) وسوريا (الحرة) والعراق (الحر).

هل بدا الآن سببُ «الإشارة» التى بدأتُ بها هذه المقالة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق