الخميس، 19 يونيو 2014

دورانٌ إجبارى


فى حدود الساعة العاشرة من صباح أمس، سمعتُ من خلف الفاصل القائم بين طاولات المقهى الفسيح صوتَ أقدامٍ تقترب نحوى من ناحية الباب، فلم أهتمّ بها. كنتُ غارقاً فى أعماقى، يجرفنى إلىَّ جَوَلانى فى القاع، وهَيَمانى فى سماواتى.. كانت قد مضتْ علىَّ ساعةٌ بمجلسى المعتاد بآخر الطاولات؛ حيث لا أرى إلا الحائط، ولا أحد يلحظنى ويشوِّش أحوالى المزدحمة بداخلى.
طاولتى المنزوية، إلا القائم الخشبى المغطى بجلدٍ قديم قد اهترأت حوافُه، جذبنى الصوتُ لأصحابه وانتبهتُ لا إرادياً وأصختُ، فسمعتُ بعد دقات الكعب العالى قولَ صاحبته: المكان ده كويس، نقعد هنا وخلاص يا «توتو».
.. صوتُها تغريدٌ.
■ ■
لم يشعر هذا المسمى «توتو» بوجودى، ولا صاحبته. مع أنهما لو تقدما خطوةً أخرى، لوجدانى جالساً خلفهما مثل أثرٍ مندثر، ووجهى إلى جهة الجدار الأخير.. بنبرةٍ ذكورية خشنةٍ لا تُناسب اسمه، سمعتُ الشابَّ أو الرجلَ يقول لامرأته، أو للفتاة التى معه إن هذا المكان مناسبٌ فعلاً، وعليها الآن أن تصغى إليه بكل جوارحها. كان نصُّ عبارته: «ماشى يا حبيبتى، نقعد هنا، المهم دلوقتى اسمعينى كويس، علشان الموضوع مهم».
- يا صباح التوتر! خير يا «توفيق»؟ فيه إيه تانى؟
- أبداً يا حبيبتى، بس عايزين نحط شوية نقط على الحروف.
كان صوته مغلَّفاً باتزانٍ قشرىٍّ فى باطنه قلق، وكان صوتها مشوباً بأشياءَ كثيرةٍ متضاربة: ترقبٍ، ورقَّةٍ، وحيرةٍ، وصبر.. أدركتُ أنهما على وشك الخوض فى قولٍ ثقيل، فرأيتُ من الواجب أن أُشعرهما بوجودى أو أقوم من موضعى، فلا أتلصَّص على ما يقولان من حيث لا يشعران.. ثم رأيتُ الأليق أن أصرف عنهما اهتمامى وأعاود عزلتى مع ذاتى ولا ألقى إليهما السمع؛ فعندى ما يكفينى من هموم أجدر بالاهتمام.. ولسوف يأتى، بعد برهة، النادلُ الذى صار الناسُ يسمونه «الجرسون» فيعرفان بمجيئه أننى موجودٌ بجوارهما، ومعزولٌ عنهما، وعن سائر الخلائق.
شردتُ مع خواطرى وأخذتنى غيبةٌ كأنها الوسنُ، وعدتُ منها لما سمعتُ صوت جارى من خلف الجدار يقول بلسانٍ يتحسَّر إنه لن يستطيع احتمال هذا الحال.. وتدفق بينهما من بعدُ ذلك الحوار، بلا توقف، فقالا:
- أنا بجد مش فاهمة.. إيه الحوارات دى كلها؟ فيه إيه يا «توفيق»؟ لو انت ناوى تبعد، ونفسخ، قول على طول.
- حبيبتى أنا كده قُلت كل اللى عندى، انتى دلوقتى صاحبة القرار.
- قرار إيه؟!.. يعنى انتَ لا عاجباك صاحبتى الأنتيم، ولا لبسى، ولا طريقة تفكيرى، ولا مكياجى.. طيب فاضل فىَّ إيه؟ وإيه اللى اتغيّر؟! طيب كنت خطبتنى من الأول ليه؟
- افتكرت إنك هتتغيرى مع الوقت، بس واضح إن مفيش فايدة.
- يعنى إيه؟ انتَ عايز إيه بالظبط؟
- عايزك تبعدى عن «سهام» خالص، وتلبسى هدوم واسعة شوية، وتبطَّلى مواضيع السياسة ووجع الدماغ، وتخفِّفى المكياج علشان مش لايق مع الحجاب بتاعك.
- شوف.. ماشى موضوع الهدوم، والمكياج، بس «سهام» صاحبتى من ابتدائى وانتَ شوفتها معاى أول مرة اتقابلنا، وكنت بتقول دايماً إن دمها خفيف.
- آه، بس لقيتها بتروح الكافيه كل يوم، وبتشرب شيشة وسجاير.. والله أعلَم بتعمل إيه تانى واحنا ما نعرفش.
- يا سيدى وانتَ مالك بيها أصلاً؟
- لأ، مالى ونُصّ. انتى ناسية إنك هتبقى مراتى وهتشيلى اسمى، إزاى تبقى صاحبتك...
- أنا مش هشيل حاجة، خلّى اسمك معاك. اتفضَّل دبلتك، وابقى ابعت حدّ ياخد حاجتك اللى عندنا.
- والله انتى حرَّة.
- أيوه طبعاً، حُرَّة ونُصّ.. مع السلامة.
■ ■
تباعدت دقاتُ الكعب العالى رويداً، وهدأ إعصار الكلام الذى دار بجوارى، بعدما جرف ما كان قائماً من قصور الرمال. ساد الصمتُ. تردَّد فى باطنى صدى ذكرياتى حتى أخرجنى من الدوار، صوتُ جارى المتوتر وهو يُحادث صديقاً له عبر تليفونه المحمول. لا جديد فينا. سمعته يقول كلاماً شبيهاً بما قلته يوم فراقى المحبوبة، ولكن بلفظٍ أكثر ركاكة، وكالعادة، أخبر صاحبه بأنه فكَّ الخِطبة ثم راح من بعد ذلك يشتكى من أن النساء يستحيل إرضاؤهنَّ، مهما حاول الرجلُ نيل هذا الرضا. كان يسكتُ قليلاً كمن يستمع إلى مواساةٍ غير مُرضية، ثم يندفع بنبرةٍ متذمِّرةٍ ليؤكد أنه لم يُقصّر معها فى أى شىء، وأنه متأكدٌ من أنها لن تصلح له، ولن تصلح من بعده مع أى رجل، ولسوف يجد من بعدها واحدةً تحبه وتعيش معه حسبما يهوى. قال: «أنا عارف يا عم، هىَّ كانت غلطة من الأول، بس الحمد لله إن الموضوع وقف لحد كده، وبعدين دى أصلاً دلوعة وكنت هتعب قوى معاها. يلا، مفيش نصيب»!
قبل انتهاء المكالمة، جاء «الجرسون» فأخذ من فوق طاولتى كوب العصير الذى شربتُ معظمه، ولم يتوقف عند طاولة جارى، ولا اهتم بما كان يقوله بصوتٍ عالٍ.. العاملون فى المقاهى ملُّوا الاهتمام بالحكايات المتكررة.
■ ■
انتظرتُ أن يقوم جارى الحزين، الذى لم أرَه، فأقوم من بعده كيلا يُحرجه، ويُحرجنى، أننى سمعت على غفلةٍ منه كل ما دار.. لكنه أطال المُكث بمكانه، فقمتُ مُتثاقلاً ومررت من أمامه فى طريقى إلى صخب الحياة، فكان غافلاً عن مرورى به، مثلما غفل من قبل عن وجودى بقربه، وغفل من قبل القبل عن أمورٍ مُهمّة. الغفلةُ تغطّى الغفلات.
بلا قصدٍ، ألقيتُ عليه نظرةً عابرةً كانت كافية لإثارة ذهولى وحيرتى. رأيته يشبهنى فى الملامح، وحال الحسرة، ويلبس مثل ما ألبسه ويجلس مثلما كنتُ أجلس.. تائهاً فى موضعه، مندهشاً من فوت التمنيات، غاضباً مما جرى معه وليس مما جرى منه.. رأيته، أنا.
على رصيف المقهى، لمحت طاولتين عامرتين، الأولى يجلس عندها عاشقان لم يحلِّقا بعدُ فى سماوات المنى العلوية، ومعهما صديقة العاشقة تمازحهما بخفةِ ظلٍّ لا تخفى على النظرة العابرة.. العاشقُ متأنقُ الجلسة والنظرات، والعاشقةُ مبهجةُ الطلَّة، تلفُّ شعرها بغطاءٍ من النوع المسمى اليوم «إسبانى» ويزيد من رونق ابتسامتها أحمرُ الشفاهِ الفاقع لونُه، السارُّ للناظرين.. كانوا سعداء سعادةً مؤقتة.
عند الطاولة الأخرى التى بطرف الرصيف، لمحتُ عجوزاً تجلس بأسى. وحيدةً، مهدودةَ الأركان، شاردةً لا تلتفت يُمنةً ولا يساراً، كأنها تنظر فقط فى بئرها السحيقة.. فى لحظة إشراقٍ مفاجئ، عند عبورى الشارع الواسع، أدركتُ على نحوٍ خفىٍّ أننى كُلُّ ما أُريته. ومثلما كنتُ المتكوّمَ بداخل المقهى فوق تلال حُزنه، كنتُ الثلاثةَ السعداء الجالسين على الرصيف..
وكنتُ المرأةَ العجوز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق