الأربعاء، 14 مايو 2014

عجائب مصرية (4)

المصدر: الأهرام اليومى

ومن عجائب أمورنا، نحن المصريين، أمثالُنا الشعبية. ولهذا القول تفصيلٌ، سيأتى بيانه فيما يلى: 
المفروضُ نظرياً أن تلك العبارات القصيرات، المسجوعات عادةً، المسمّاة اصطلاحاً "الأمثال" هى خلاصةُ تجارب الشعوب القديمة، ومرآةُ حكمتها المتوارثة على ألسنة الناس جيلاً من بعد جيل. وربما تجرى عليها مع مرور الأيام بعضُ التعديلات الطفيفة فى المفردات، وربما تنطمر تماماً وتُنسى، ولكن الباقى منها والمتداول، يظلُّ محتفظاً فى طياته برحيق الحكمة العملية المتوارثة، وبطبيعة التفكير السائد فى الجماعة عموماً. وهو ما يُسمّى "العقل الجمعى". ويمكن النظر إلى الأمثال الشعبية، على اعتبار أنها رسالةٌ تعليمية وتنبيهاتٌ مهمة تقدّمها الأجيالُ السابقة إلى اللاحقة.
وغالبية الأمثال الشعبية، مهما كانت مشهورة، مجهولة المؤلف. فلا نعرف قائلها الأول أو مُبتكرها الأصلى، ولا نسأل عنه أصلاً. ولذلك نسبقها بعبارات من نوع: وكما جاء فى المثل. قالوا قديماً. وَرَدَ فى الأمثال. من كلام جدتى (دون تحديد لهذه الجدة أو تلك).
غير أن بعض العبارات اللامعة، معروفة القائل، تلقى قبولاً عند الناس فتشتهر بالتداول على الألسنة، ويقال عنها أنها "سارت مَثَلاً". والأمثلة على ذلك كثيرة (لاحظ هنا الفارق فى جمع كلمة مثل، بأمثلة وأمثال، للتفرقة بينهما) فمن تلك العبارات: الليلة خمر وغداً أمر. وهى قولة الشاعر الجاهلى الشهير، المشهور بالمجون "امرؤ القيس" عندما أبلغوه ليلاً وهو يلهو حسبما اعتاد، بأن أباه قُتل، ومن ثمَّ يتعيَّن عليه السعى للأخذ بثأره.
وقد يتناقل الناسُ عبر القرون "مثلاً" ما، ويتغافلون عن نسبة المقولة لصاحبها (كأنها صارت ملكية عامة) فمن ذلك: داونى بالَّتى كانت هى الداء. دون اهتمام بالإشارة إلى أن هذه العبارة، التى سارت مثلاً، هى الشطرة الثانية (العَجُز) من بيتٍ شعرىٍّ بديعٍ لأبى نواس، تقول الشطرة الأولى منه (الصدر): دع عنك لومى فإن اللومَ إغراءُ.
وعلى المنوال السابق، تكثر أمثلة "الأمثال" التى يُنسى صاحبها الأصلى وقائلها الأول، وتشتهر بنصِّها مع مداومة استعمالها فى المواقف ذات الصلة بها، فمن ذلك: إن غداً لناظره قريب (وهى قولة تعود إلى زماننا القديم المسمى: الجاهلى). عفا الله عما سلف (وهى عبارة قرآنية). كل جاف طاهر بلا خلاف (وهى قاعدة فقهية تحدِّد المواضع المناسبة للصلاة).
لكن هذا النوع من "الأمثال" ذات القائل المستتر، يكون فقط فى الأمثال الشعبية ذات الألفاظ الفصيحة، أما الأكثرية الغالبة من أمثالنا فهى عاميَّة المفردات وغير معلومة المصدر أصلاً، ولا يكترث أحدٌ بمعرفة أصلها.
ومن الأعمال المهمة المرتبطة بأمثالنا الشعبية، ما قام به العلاَّمة أحمد تيمور (وهو أحد باشوات مصر المرموقين) عندما جمع منها ما يزيد على ثلاثة آلاف مَثَل، أو بالأدق ثمانية وثمانين ومائة وثلاثة آلاف مَثَل، وجعلها فى كتابٍ موسوعى طبع بمصر تحت عنوان: الأمثال الشعبية. وعلى منواله، جاءت عدة محاولات لجمع وتبويب أمثالنا الشعبية والعربية، ولكن ظل كتاب أحمد تيمور هو أولُ وأهمُّ محاولة فى هذا المجال.
كما قام د. حامد طاهر بمحاولة طريفة فى كتابٍ صغيرٍ له، يدلُّ عنوانه على محتواه: الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية. ومع أن مؤلف الكتاب من أساتذتى (وكان أحد الثلاثة الذين أعدُّوا تقرير ترقيتى إلى درجة الأستاذية فى الفلسفة) ومع أنه من أظرف أساتذة الفلسفة المعاصرين (ولا أحب أن أغضبه، لمكانته عندى) إلا أننى قرأتُ الكتاب أخيراً، قبل كتابتى هذه المقالة، فوجدته من زاوية النظر الفلسفية لا يزيد على كونه: دعابة لطيفة.
وبعدُ، ما العجيبُ فى أمثالنا الشعبية؟. حسبما ذكرنا فى البداية، فإن الأمثال تدل على طبيعة الحكمة العملية للجماعة، ولذلك نجد شعباً تميَّز دوماً بالمهارة والدأب كالصينيين، يشتهر من أمثالهم: لا تعطنى كل يوم سمكة، ولكن علمنى الصيد. 
وعلى المنوال السابق، سنجد الأمثال الشعبية عند كل الجماعات المختلفة معبرةً على نحوٍ ما، عن طبيعة هذه الجماعة أو تلك. وقد نجد اشتراكاً بين الأمثال الشعبية الدالة على المعانى العامة، مثل قولهم "الولد صنو أبيه" المعبَّر عنه بالصيغة الإنجليزية الشهيرة: الابن مِثل أبيه Like father like son. لكننا لن نجد فى "أمثال" الشعوب، هذا التناقض الكبير الذى نجده فى أمثالنا الشعبية المصرية. والدلائل على ذلك لا تكاد تقع تحت الحصر، فمثلاً: من أمثالنا الشعبية ما يدعو إلى احترام التخصُّص فى الأعمال، كقولنا العامىّ "اعطِ العيش لخبَّازه" وفى المقابل من ذلك تماماً، نجد المثل الشعبى الذى يزرى بالمتخصِّصين قائلاً: باب النجار مخلَّع.
ويمتد فينا تناقُض أمثالنا، فإذا أردنا تحميس شخصٍ ودفعه إلى التميُّز والمخاطرة والمغامرة نقول: يفوز باللذات كل مغامرٍ (وهو صدر بيت شعرى قديم، سار مثلاً). وفى المقابل من ذلك تماماً، تدعونا الأمثلة الشعبية إلى المهادنة والموادعة والخنوع بأقوالٍ كثيرة، منها: مَنْ خاف سلم، امشى سنة ولا تعدّى قَنا (مجرى مائى صغير) حُط راسك فى وسط الرووس. 
وللإعلاء من قيمة الإيمان الدينى، واستلهاماً من الواقعة العربية القديمة فى "نجران" الوارد ذكرُها فى القرآن الكريم نقول باللفظ العامىّ: النار ما تحرقش مؤمن. وعند المواساة نقول ما يناقض ذلك: المؤمن مصاب! وإذا أردنا التدليل على ضرورة الصبر عند المِحن، وأهمية احتمال حوادث الزمان، والاستهانة بها، نقول: ياما دقَّت على الراس طبول. وفى المقابل من ذلك، نجد المثل المناقض القائل: خَبْطتين فى الراس توجع! وإذا استعجلنا الأمور، قلنا بشكل مجازى لطيف: اتقلْ على الرُّز يستوى. وعلى النقيض من ذلك، يقول مثلٌ آخرُ فصيحُ المفردات: خير البر عاجله! 
وعلى هذا النحو تتناقض دلالات الكثير من أمثالنا الشعبية، المشهورة، لتجعل المعنى المراد من هذا "المَثَل" وذاك، متعارضاً بشكل تامٍ. وقد اكتفينا بذكر الأمثلة السابقة للأمثال المتناقضة، للإشارة إلى هذه الحالة العجائبية للعقل الجمعى المصرى، الذى يُعبِّر عن نفسه بالأمثلة والمأثورات المتناقضة.
وقد يعترض بعضُ القراء على ما سبق، اطلاقاً من أن هذه الأمثلة إنما تُقال فى سياقات منفصلة، وأنها تعبِّر عن التنوع وإتاحة "البدائل الثقافية" فى مجتمعنا "العريق". وردَّاً على هذا المعترض نقول: إن هذا التميُّع وعدم الضبط فى الأمثال الشعبية، بصرف النظر عن السياقات المنفصلة التى تستعمل فيها، دليلٌ على طريقة التفكير العامة فى المستويات الشعبية. وهى طريقة حادة التناقض، ولا تدل إلا على الرغبة فى المراوغة وقبول الأحوال أيا ما كانت، وتفصيل الأقوال وفقاً لما يُرضى جميع الأطراف! أما مسألة "البدائل الثقافية" فهى من الأهمية بحيث نُفرد لها مقالاً قادماً فى هذه السباعية التى تستعرض عجائب العقل الجمعى المصرى، وتجرؤ على نقد الذات فى مجتمع لا يطيق النقد الذاتى.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق