الأربعاء، 14 مايو 2014

عجائب مصرية (3)


المصدر: الأهرام اليومى

ومن عجائب أهل مصر ومفاتن أحوالهم الغرائبية، أنهم قومٌ طيِّبون يعيشون عيشَ السبهللة (هذه الكلمة فصيحة) ولا يحبون الغوص فيما وراء المظاهر الخارجية، إلا نادراً، ولذلك تجدهم يمدحون الثمرة ويتجاهلون جهد الذى غرس بذرة الشجرة المثمرة، ويبادرون إلى إدانة السكين ولا يجهدون أنفسهم فى اكتشاف شخصية المدان الفعلىِّ الذى قتل بها.
يظهر ذلك واضحاً فيما لا حصر له من أمورٍ نختصُّ بها، نحن المصريين. مثل شكاوانا الدائمة من مستوى الأفلام السينمائية (الهابطة) ومن أداء قنوات الإعلام (الفاسد) ومن سُخف الجرائد الحكومية لأنها حكومية، وغير الحكومية لأنها غير مسئولة وتطارد الأخبار "الحريفة" وتنشرها محرَّفة عن مواضعها. وهناك، غير ما سبق ذكرُه من أمثلة، كثيرٌ من الدلائل المؤكِّدة حرص المصريين على التنصُّل من المسئولية العمومية، عبر هذه الاتهامات الجاهزة للانطباق، وعبر ما لا حصر له من الحيل الأخرى. وللأمر تفصيلٌ: 
من قبل اندلاع الأحوال المصرية فى آخر يناير 2011 (وهو ما كنا حتى وقت قريب، نسميه ثورة الربيع العربى!) وحتى اليوم، واللومُ دائمٌ للمنتج السينمائى "الفلانى" الذى لا يهتم إلا بالكسب المادى، فيقدِّم فى أفلامه الرخيصة "الخلطة" مضمونة النجاح جماهيرياً، وهى: شىء من العنف، مع شىء كثير من الإثارة الجنسية. ولا بأس ببعض البهارات السياسية، عبر تلك العبارات الناقدة الناقمة التى يدسّها "السيناريست" بين ثنايا المشاهد السطحية. وبالطبع، لا يجب أن تخلو "الخلطة" من رقصةٍ تُهيِّجُ بالأرداف أتقى الرجال الأشراف، ومن قُبلةٍ طويلة أو قُبلاتٍ متتالياتٍ ليفرح بها ويتحسَّر معها المحرومون (يعنى معظم المصريين).
وينجح تسويق الفيلم ويكسب أموالاً، ليبدأ من بعد ذلك عويلُ "عقلاء" المصريين ونجيبهم على حال الفن ورداءة الأفلام التى تقدم عن مصر صورةً مشينةً. وقد تصل هذه النقمة العامة إلى الهجوم الشخصى على المنتج الرقيع، والمخرج الوضيع، والممثلة الخليعة، والموزِّع المنحاز. المهم، أن نجد نحن المصريين (الكلمة هنا منصوبة للتخصيص) مَنْ يحمل أوزار الفيلم الهابط، الذى نجح تجارياً لأن المصريين أقبلوا عليه! ولأن الناس فى بلادنا يتحاشون نقد الذات، ويستعملون هذه الحيل البائسة بدلاً من طرح الأمر على وجهه الحقيقى، وبالشكل المنطقى.
طرحُ الأمر على وجهه الحقيقى، وبالشكل المنطقى، لا يجرؤ عليه معظم الناس فى بلادنا، فى معظم الأحيان. لماذا؟ لأن الذى يفعل ذلك، سيخرج من الحالة العجائبية العامة، فيصير فى نظر الآخرين شخصاً ثقيل الظل، وربما غير مُحتمل! إذ كيف يتجرأ شخصٌ على غالبية المصريين ويصفهم بالسطحية والسبهللة والهبوط، لأنهم يُقبلون طواعية على مشاهدة الأفلام الهابطة؟ وكيف يقول إنه لولا الجمهور الهابط، لما كانت الأفلام الهابطة؟ ولماذا لا يكتفى مثل الآخرين بإدانة بعض الأشخاص "منتج، مخرج، ممثلة" ويحمِّلهم وزر الهبوط، مادام ذلك ممكناً. فيُبرأ هذا الشعب العظيم صاحب (الحضارة) الممتدة سبعة آلاف عام، من الآثام.
إلى متى سوف نستمر فى هذه المناورات العجائبية؟ ولماذا لا نقر ببساطة، بالآتى: لولا أن غالبية الناس فى مصر (أكثر شعوب العالم تديناً) كاذبون، لما كانوا قد احتملوا كل هذا الكذب والتضليل. ولولا أن الجمهور العريض منهم (أو الأعرض) هابطٌ، لما غَامَرَ المنتج بأمواله لتقديم فيلم هابط، ولما تعرَّت هذه الممثلة لتأكل الشهد بالإثارة مُسيلة اللعاب، وبألعاب الابتذال. ولولا حالة السبهلة العامة، لاستطاع الناس التفرقة بين فيلم (تجارى) يهدف إلى التسلية والترفيه، فقط، وفيلم (إبداعى) لا يراعى الكسب المالى بقدر ما يهتم بالفن السينمائى، وفيلم (هابط) يتناسب مع الجمهور العريض، الهابط.
وإذا أَمسكنا بهذا الخيط، ونَسَجْنَا على المنوال السابق، سوف نكتشف الكثير من عجائبنا، ولعلنا "لو" اكتشفنا ذلك الكثير، قد نبرأ منه. حتى فى غير المجالات السينمائية والإعلامية، فنكفُّ مثلاً عن الحطِّ والإزراء والتحقير للمنتجات الصينية، على اعتبار أنها الرداءة بعينها. بينما الذى طلب رداءتها هذه، هو المستورد المصرى الذى استرخص أصلاً، وكان بإمكانه تقليل هامش ربحه لرفع مستوى سلعته (وكانت المصانع الصينية ستعطيه سلعةً أعلى جودةً) ونكفُّ عن اتهام الإعلام بالفساد، حين نعترف بأن فاسد الذوق والعقل هو المشاهد الذى يتابع هذا "الفساد"، ولولا هذه "المتابعة" لما قدَّم الإعلامُ الباحثُ أصلاً عن (الإعلانات) الباحثة أصلاً عن جمهور مشاهدين، مادةً إعلامية من شأنها أن توصف بالفساد والسطحية. فلو انصرف الناسُ عن مشاهدة ما يشتكون منه، نقصتْ الإعلاناتُ وكسدت "البضاعة" وانصرف المنتجون إلى غير هذا الذى يُنتجونه من برامج.
ولهذه "السبهللة" أضرارٌ أنكى وأشدُّ أثراً، تظهر لنا حين ننظر فى الجانب السياسى. وبيان ذلك وتبيانه فيما يلى: قبل عامٍ من الآن، كانت غالبية المصريين قد انتخبوا "الإخوان" وتسارعوا كى يلحقوا بركبهم الراكب كرسى الرئاسة، وأيامها رأينا هؤلاء فجأةً أولئك الذين اكتشفوا أنهم كانوا دوماً من "الإخوان" لكنهم ما كانوا يدركون ذلك! وهؤلاء الذين تجمَّلوا فى وجوه الإخوان وجاملوهم، عساهم يجدون معهم لقمةً سائغة! وهؤلاء الذين أنشأوا ما لا حصر له من قنوات دينية، للتنفيس عما يعانونه من عُقدٍ نفسيةٍ راسخةٍ فيهم. فاصطخب على الملأ الخللُ النفسى الذى يعانون منه، وطُرحت إعلامياً قضايا وهمية من مثل: ماهى السن الأنسب لزواج الجوارى؟ وهل يجب أن تتزوج البنت فى التاسعة من عمرها، أم نصبر عليها حتى الحادية عشرة من عمرها؟. فإذا بعبقرىٍّ منهم، لم يسمح الزمان بمثله، يحل هذا الإشكال الفظيع، بفتواه الأفظع: يجوز الزواجُ، فى السن الذى تطيق فيه الطفلة الوطء.
وبالطبع، فقد كان هؤلاء "المشايخ" يدّعون أنهم يبحثون عن شىءٍ جليلٍ، يزعمونه، هو إحياء السُّنة. وبالطبع، كان علينا تصديق ذلك لأنهم مشايخ يعيشون فى نطاق دولة تحكم بالشريعة "الإخوانية" ذات الصلة بالشريعة الإسلامية. وبالطبع، كان ذلك كله هزلٌ وتهريجٍ عجائبىٍّ! لأن الفتيات فى مصر يتجاوزن من أعمارهن الثلاثين، وأكثر، من دون أن يجدن أصلاً أىَّ فرصةٍ للزواج. فلما اطمأن "الإخوان" إلى أن المصريين مصرّون على السبهللة، وإلى أنهم أعطوهم أصواتهم فصيّروهم حاكمين، وأنهم يهرولون إلى كبار الإخوان وصغارهم كى يتقرَّبوا من الحاكم. أطمأن كهنةُ الإخوان إلى تلك المظاهر، فاستبدوا حتى سقطوا من فوق العرش. وقد ساعد على سقوطهم، غباؤهم السياسى وقِصَر أنظارهم وتكاثر الرافضين لهم والمتآمرين ضدهم "الذين ظنهم الرئيس السابق: عاشور بتاع المعادى، وأم التيتى بتاعة الجرجير. أو كما قال".
وفور سقوط الإخوان تعالت على الصعيد العام المصرى، صيحاتُ الإدانة والاتهامات الجاهزة للانطباق: الإخوان كاذبون. إحنا شعب وانتو شعب 
(دون تحديد لخصائص كل شعب منهما). الإخوان أضرُّ على مصر من اليهود الإسرائيليين (مع أن كليهما فى الأصل، عندى، واحدٌ) لن نتهاون مع الإخوان. اضرب يا سيسى. إلخ. وبلا خجلٍ، انبرى كثيرون لفضح مخازى الإخوان ومفاسد دولتهم، ودعا غيرهم إلى الفتك بكل إخوانىٍّ صغيرٍ أو كبير. طيب يا أهل مصر، ولكن: مَن الذى اخترع أصلاً قصة الإخوان؟ الإجابة: مصر والمصريون. ومَنْ الذى أيَّدهم نكايةً فى نظام مبارك أيام كان يحكم؟ الإجابة: مصر والمصريون. ومَنْ الذين أعطوهم الأصوات بالملايين حتى حكموا البلاد؟ الإجابة: مصر، والمصريون الذين لا يخجلون لأنهم اعتادوا تبرئة أنفسهم من كل ذنبٍ، بهذه الحيلة العجائبية المذكورة فى بداية هذه المقالة: مدح الثمرة، لا غارس الشجرة. وإدانة السكين، لا القاتل بها. اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون "ولا يتعلَّمون".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق