الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

تتمة إجبارية: بركات الضربة الجوية

كنت أظن أن مقالة الأسبوع الماضى «مختارات من فقه الحب» هى فاصل مناسب بين المقالات السبع السابقة عليها، التى تناولت أصول الجماعات الداعشية القديمة والمعاصرة، والمقالات السبع التالية التى كانت ستبدأ اليوم، وتدور حول تحولات الأنثى وصورتها فى الوعى الإنسانى، ابتداءً من الأزمنة الهمجية الأولى، مروراً بفجر الحضارات الإنسانية، خصوصاً فى مصر واليمن والعراق والشام، وانتهاء بالحالة الحرجة التى تعيشها المرأة اليوم فى بلادنا.. ونظراً للمخالفة بين هاتين السباعيتين، فقد ظننت أن الفصل بينهما بفقه الحب سيكون مناسباً، ولكن هيهات فما كدت أنتهى من كتابة السباعية الداعشية، وقبل انتهاء نشرها على هذه الصفحة، تواردت الأنباء عن اقتراب موعد الضربة الجوية المزمع القيام بها من أمريكا وشركائها العرب والأوروبيين.
وقبل ابتداء الضربة الجوية، كتبت على صفحتى بـ«الفيس بوك» ما مفاده أن الضربة هذه ستكون نتائجها كارثية، ولن تؤدى إلا لمزيد معاناة للمدنيين وليس للدواعش، وستكون عملاً عبثياً يماثل القصف الجوى الأمريكى على جبال «تورا بورا» فى أفغانستان، حيث ألقيت على الأحجار أطنان القنابل التى لم تصب طالبان بسوء، ولا القاعدة، وإنما أدت إلى انتشارهما فى الأراضى الأفغانية وفى عديد من البلاد الإسلامية التى وفد منها العرب الأفغان، ثم عادوا إليها فى غمرة ما كان يسمى ثورات الربيع العربى.. ومع أن صفحتى الفيس بوكية يتابعها عشرات الآلاف من القراء النابهين، وهو عدد «حقيقى» وليس مزيفاً مثلما هو الحال فى كثير من الصفحات مزيفـة العدد «نظير مقابل مالى يدفعه أصحابها» ومع أن عديداً من زوار الصفحة اهتموا بما كتبته عن هذه الضربة المتوقعة البائسة، وتم التفاعل مع عباراتى التحذيرية بكثافة بلغت عدة آلاف من زوار الصفحة، إلا أن رسالتى لم تصل بمداها إلى أكثر من ذلك، وتم كالعادة تجاهلها أو غض النظر عنها، لا سيما مع اقتراب الأيام «المباركة» واستعداد عموم الناس فى بلادنا لعمليات النحر الشرعى بمناسبة وقفة عرفات وأيام العيد.. وشغلهم النحر عن الذبح، والتظاهر بالفرح عن اتقاء الترح، والبهجة البلهاء المؤقتة عن الكارثة القريبة والمحققة.
وفى الأيام السابقة على عيد النحر، وأثناءها، وبعدها تواصلت الضربة الجوية «الجبانة» على داعش، وأقول فى وصفها «الجبانة» لأنها تجرى عن بعد، ومن السماوات العالية، وليس فيها مواجهات حقيقية مع القوى الداعشية المسلحة بعتاد أمريكى، وتقصفها طائرات أمريكية يتشارك فيها الأمريكيون وبعض أصدقائهم، بالطريقة المعبر عنها فى قولنا بالعامية المصرية: من بعيد لبعيد.
والعسكريون يعرفون أن الضربات الجوية لا يمكن أن تحسم حرباً، ويعرفون أن النصر أو الهزيمة لا يكونان إلا على الأرض، ولذلك كنا نقول أيام الجندية، أو كانوا بالأحرى يقولون لنا: المشاة سيدة المعارك.. والعقلاء يعرفون أن القصف الجوى الجبان «من بعيد لبعيد» إذا تم وحده، ينتهى عادة إلى بلايا وكوارث وأكاذيب، مثلما رأينا فى قصف التحالف الأمريكى لأنحاء ليبيا، وهو ما أعقبه فورة أنصار الشريعة والمقاتلة والعرب الأفغان وانتشارهم فى الأنحاء الليبية التى لن تبرأ من وجودهم قبل مرور عقود من الزمان (ولا معنى للمجادلة العاطفية فى هذه الحقيقة).. ومثلما رأينا فى قصف إسرائيل لغزة قبل شهور قليلة، وكيف أدى إلى مزيد استحكام لقبضة «حماس» على القطاع، حتى إنهم كانوا يعدمون عشرات الفلسطينيين بتهمة الخيانة العظمى، قبل يوم واحد من توقف القصف الإسرائيلى.. ولما توقف القصف صاحت حماس: انتصرنا.. (وقد انتصروا فى واقع الأمر وأحكموا سلطتهم على الأرض، بعد مقتل ألف ومائتى فلسطينى جراء القصف الإسرائيلى الجوى، الجبان، وتدمير البنية التحتية وحصولهم على ملايين الدولارات كمساعدات لإعادة الإعمار، فيصيرون هم المصلحين)!
المهم.. أدت الضربة الجوية الأمريكية البائسة على داعش، حتى الآن، إلى نتائج تجعل الداعشيين يرون أنها «ضربة مباركة» تمت فى أيام عيد النحر «المبارك» ولسوف تؤدى كلما استطال زمنها إلى «بركات» كثيرة للجماعة الداعشية، وويلات كثيرة لغيرهم.. وفيما يلى، سوف نتوقف فى هذه السطور التالية عند النتائج الفعلية للضربة الجوية الأمريكية، التعيسة، على داعش.
أولاً: اتسعت رقعة الأرض التى تسيطر عليها داعش، واستطاع مقاتلوهم اقتحام مزيد من المدن والقرى العراقية، بل سعوا فى غمرة القصف الهزلى إلى أمر لم يجرؤوا عليه من قبل، هو الزحف إلى بغداد ومحاولة اقتحام السجن الكبير هناك لتحرير أعوانهم المحبوسين فيه.. وفشلت المحاولة الدالة على اشتداد جرأة داعش، ومات خلق كثير لغير وجه الله، وأثبتت داعش قدرتها على الوصول لعاصمة العراق.. مع أن القصف كان فى الوقت نفسه يجرى من السماء، ونراه على شاشات التليفزيون مثلما يشاهد الأطفال الألعاب المسماة «الفيديو جيم» أما على الأرض، فقد حلت البركات على الدواعش وامتدت مساحة أرضهم وتزايدت جرأتهم وقويت شوكتهم. لماذا؟ لأن داعش ليست دولة مركزية، من الممكن قصف عاصمتها لإحداث شلل فى أطرافها، هى ليست كذلك، وإنما هى أقرب لأسراب جراد «مسلح» وإذا قصف الجراد، فلا بد أن ينتشر.
ثانياً: بعد ساعات من ابتداء القصف الجوى، الجبان، نزح عشرات الآلاف من سكان القرى والمدن الصغيرة فى شمال سوريا والعراق، وهربوا من ديارهم أملاً فى النجاة من مطرقة القصف السماوى وسندان الشعار الداعشى.. ومن يومها وهم يهربون، ليس إلى أنحاء سوريا والعراق، فكلها أنحاء منكوبة، وإنما إلى الحدود التركية، وهنا يتحقق المراد! يحصل النازحون على أمان مؤقت، وتبدو تركيا وكأنها تقوم بدورها الإنسانى فى احتواء النازحين، وتخلو النواحى من سكانها فيستطيع الداعشيون التهامها بأقل مجهود.. ثم من بعد ذلك، يعود النازحون أو بعضهم إلى نواحيهم وقد صارت بقبضة داعش، المدعومة أصلاً من تركيا لتحقيق مصالحها الحقيرة (محاصرة الأكراد، خلخلة المنطقة العربية الملاصقة لها وبالتالى ازدياد قدرتها على التأثير الإقليمى، التعاون الأمريكى التركى على الإثم والعدوان فى الوقت الذى يرفع فيه أردوغان راية الإسلام ويتباكى على شهداء رابعة)!
ثالثاً: قامت الطائرات الأمريكية وحليفاتها العربية والأوروبية بقصف مواقع النفط التى تسيطر عليها داعش وتحصل منها يومياً على مليونى دولار، فقام الداعشيون بإيجاد مصادر تمويل بديلة، لتوفير نفقات حربهم المقدسة، فقاموا بأعمال أشنع بكثير من الاستيلاء على منابع النفط، منها بيع القطع الأثرية النادرة التى سلبوها من شمال العراق، لا سيما أن الآثار عندهم «حرام»، ومنها بذل المزيد من الولاء للأتراك الداعمين للدواعش منذ يومهم الأول، ومنها احتدام العمليات العسكرية ذات الطابع الانتحارى للحصول على مزيد من الأرض وخيراتها.. وعلى الجانب الآخر، صارت مصافى النفط حرائق مستعرة لا تجد من يطفئها.
رابعاً: مع ابتداء الضربات الجوية مالت إلى الدواعش قلوب المؤهلين للدعش (الدعش، يعنى: الارتداد للهمجية الأولى باسم استعادة مجد الإسلام الغابر وإحياء وهم الخلافة)، فرأينا فى أنحاء العالم ردود فعل متعاطفة، كلها تصب فى مصلحة الدواعش.. منها: إعلان حركة طالبان بباكستان ولاءها لخليفة داعش ودعوتها لكل المجاهدين باسم الإسلام إلى دعم داعش بكل ما يمكنهم من السبل والوسائل.. ومنها، خروج جماعات داعشية وليدة فى المدن الأوروبية للتنديد بما يجرى لإخوانهم الدواعش فى العراق وسوريا، واحتكاك هذه الأجنة الداعشية بقوات الأمن وبالمواطنين لإشهار الحركة ولفت النظر إليها شرقاً وغرباً.. ومنها، التحول التلقائى لكارهى السياسة الأمريكية الخارجية، الباطشة، إلى تعاطف مع المقصوفين من الدواعش الذين يرفعون راية الإسلام الحنيف (حنيف كلمة عبرية، تعنى: الختان).. ومنها، جرأة بعض الواقفين بعرفة قبل أيام، على رفع راية داعش يوم وقفة الحجاج بجبل عرفة.. ولا يعرفون، لأنهم جهلة، أن أجداد الدواعش من القرامطة، ذبحوا الحجاج يوم وقوفهم بعرفة وخلعوا الحجر الأسود من مكانه، وبقى المسلمون قرابة عشرين سنة لا يؤدون فريضة الحج خوفاً من القرامطة وشنائعهم الداعشية، ولا يعرفون أن آباء الدواعش اقتحموا الحرم المكى سنة 1984 وقتلوا عشرات الحجاج الأبرياء، باسم إحياء شريعة الإسلام.
خامساً: لأن الدواعش يتعرضون للقصف الذى يرونه ظالماً، فقد انهمكوا فى أفعالهم السابقة التى وإن كانت ظالمة فقد صارت مبررة، لأنها لو لم تكن شرعية خالصة، فهى ضرورية (لأن الضرورات تبيح المحظورات). ومن هنا، قامت الحركة بتخفيض أسعار النساء اللواتى يتم بيعهن للمقاتلين كى يتصبروا بالنكاح على الجهاد المقدس، وهو ما يعنى ضرورة الحصول على عدد أكبر من الأسيرات (الإماء) لتلبية الحاجات الجنسية للمقاتلين.. ومن هنا، تطوعت بعض النسوة المختلات عقلياً بإتاحة أجسامهن مجاناً للمقاتلين الدواعش، تعاطفاً معهم، وهو ما سمى مؤخراً: التطوع لجهاد النكاح.. ومن هنا، لم يعد للدواعش ما يدعوهم لاعتبار أى مواثيق دولية (وكانوا لا يعتدون أصلاً بها) لأن الدول تحاربهم، فهم يحاربون العالم أجمع، والحرب خدعة! فليفعلوا كل ما بدا لهم، وكل ما يضمن بقاءهم، وليذبحوا مزيداً من الرهائن الغربيين (مع أنهم لم يحاربوهم، وليسوا أسرى) وليقوموا بذلك علانية لتنشره قنوات التليفزيون فيعرف الناس أن الدواعش أقوياء، مهما تعرضوا للقصف! بعبارة أخرى، لم يؤد التهريج الأمريكى إلا لمزيد من التهريج الداعشى الذى صار كأنه مبرر.
وبعد.. فتلك هى بعض نتائج الحملة الجوية على داعش، وكلها كما رأينا نتائج كارثية (كتبت هذه المقالة، أول أيام العيد)! ولسوف يتضح المزيد منها فى الأيام القليلة المقبلة.. وقد رأيت من الواجب الإشارة إليها فى هذه المقالة (التتمة)التى سأنهيها ببعض العبارات السريعة التى بلا شرح، لكنها تستحق التأمل.. فأقول: من العار على أى بلد عربى الاستعانة بأمريكا، فهى لم تضع أصابعها فى مكانٍ إلا وصيرته خراباً بلقعاً (فيتنام، الصومال، أفغانستان، العراق، ليبيا.. إلخ).. من العار أن يذبح المسلمون الأضحيات، وداعش تذبح الناس مسلمين وغير مسلمين.. من العار على العرب أن يكونوا أحياءً وأن يزعموا أنهم مسلمون أنقياء ولا شأن لهم بما يجرى فى سوريا والعراق، فهم بنص الحديث الشريف، ليسوا مسلمين، لأن النبى قال بالنص: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».
.. متى تنطوى هذه الصفحة الداعشية الشنيعة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق