الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

رموز مصرية : أبو الوفا التفتازانى

لكل قاعدة استثناء، وهذا الاستثناءُ لا ينفى القاعدة وإنما يؤكِّدها، لأنه يثبت بالندرة حُكم الشيوع. والشائع فى حياة الناس، قديماً وحديثاً، هو أن الشخص الذى يشتهر شأنه فى أى مجال، له لا محالة أعداءٌ ينتقصون من قدره ولو بالزور والكذب تنفيساً عن غلّ نفوسهم. ومثلما يحظى مثل هذا الشخص بمن يمدحه، يُبتلى ببعض الكارهين الذين يتعقبونه بالقدح ويجتهدون فى التقليل منه.

وكان الاستثناء الوحيد الذى رأيته لهذه «القاعدة» فى حياتنا المعاصرة ، هو هذا الرجل الذى قابلتُ كثيرين يحبونه وقليلين محايدين تجاهه (لأنهم لا يعرفونه جيداً) ولم أجد أحداً يقدح فيه أو يجرؤ على الانتقاص من قدره. فكأنه حظى بنصيبٍ من المعنى الوارد فى الآية القرآنية «وألقيت عليك محبةً منى» وفى الحديث النبوى الذى يقول ملخّصه: إن الله إذا أحب عبداً من عباده..يُوضع له القبول فى الأرض.

وما ذكرناه فيما سبق،لا يكاد ينطبق إلا على عددٍ محدودٍ من الناس الذين سطعت نجومهم قديماً أو حديثاً، فلا أتذكَّر منهم الآن إلا اثنين فقط: الشيخ الإمام عبد القادر الجيلانى، المتوفى سنة 561هجرية.. وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، أستاذ الفلسفة والتصوف، نائب رئيس جامعة القاهرة «د. أبو الوفا الغنيمى التفتازانى» المتوفى قبل عشرين عاماً، وبالتحديد سنة 1994 .

نشأ الدكتور «أبو الوفا» يتيماً، إذ توفى أبوه (شيخ الطريقة الغنيمية) وهو لم يزل طفلاً فى السادسة من عمره، لكن صديق والده «د. محمد مصطفى حلمى» الأستاذ الجامعى، صاحب الكتاب البديع (ابن الفارض) تعهّد الطفل برعايته العلمية، وألحقه بقسم الفلسفة بكلية الآداب/جامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حالياً. ثم أشرف على رسالته للدكتوراة التى نشرها د. التفتازانى لاحقاً، فى كتابٍ مرجعىٍّ عنوانه: ابن سبعين وفلسفته الصوفية. وهو الكتاب الذى يُعد من دون مبالغة، هو أهمُّ ما كُتب عن هذا الصوفى الأندلسى البديع.. الغامض فى مفرداته.. العارم فى رؤاه وتجربته الروحية.

وقد تولَّى د. أبو الوفا مشيخة الطريقة الصوفية التى كان أبوه شيخاً لها، ثم صار لاحقاً هو:شيخ مشايخ الطرق الصوفية فى مصر. وفى مسارٍ موازٍ ترقى فى وظائفه الجامعية، حتى صار نائباً لرئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا والبحوث. وقد عرفته وهو فى هذا المكان وتلك المكانة، بالطريقة التى سأحكى طرفاً منها فيما يلى، لأنها تدل على قيمة هذا الرجل، وعلى تواضعه الجمّ، وتكشف عن جزء مهم من الجانب الإنسانى فى شخصيته.

فى العام 1984 جاءت فتاةٌ فاضلةٌ لتدرس معنا فى الإسكندرية بالمرحلة التمهيدية للماجستير، وعرفنا أنها من أقارب الدكتور أبو الوفا التفتازانى.. وبعد تردُّدٍ، قلت لها يوماً إننى أريد منها إيصال رسالةٍ خاصةٍ له، فيها بعض النقاط المتعلّقة بكتابه «ابن سبعين»فوافقت الفتاة على تسليم الرسالة. كنتُ بحكم السن المبكر مندفعاً، فكتبت أربعة صفحات فيها اعتراضاتٌ على ما أورده «د. أبو الوفا» فى كتابه، وتفسيراتٌ خاصة لمعنى ودلالة العنوان الغريب الذى اختاره «ابن سبعين» لأهم كتبه وأكثرها اشتهاراً: بُدُّ العارف (وحقيقة المُحقِّق المُقرَّب الكاشف)

فى الأسبوع التالى، تلهفتُ قبل موعد المحاضرة على معرفة رأى «د. أبوالوفا» فيما أرسلته له، فانتظرتُ الفتاة عند مدخل كلية الآداب بالشاطبى وهممتُ إليها حين رأيتها، سائلاً إياها عما قاله حين استلم الرسالة. فقالت مانصُّه: هوَّ عاوز يشوفك!.. لم أستطع صبراً، وفى الصباح التالى ذهبت إلى القاهرة وتحت قبة جامعتها التقيتُ بالشيخ، الأستاذ، الذى أخبرته «السكرتيرة» بوجودى فخرج بنفسه ليستقبلنى، فاندهشتُ من تواضعه. واندهشتُ أكثر من اهتمامه العلمى، حين أخرج من درج مكتبه رسالتى وراح يناقشنى فيما ورد فيها، وامتدّ لقاؤنا الأول أكثر من ساعةٍ عدت بعدها إلى الإسكندرية فرحاً، ومفعماً بمشاعر قوية لم تغب عن خاطرى طيلة هذه السنوات الطوال، حتى بعدما توثقت صلتى بالدكتور أبو الوفا، وتكرّرت زياراتى له.

وصار الدكتور التفتازانى أستاذاً مباشراً لى، وناقشنى فى الرسالتين اللتين حصلت بهما على درجتى الماجستير والدكتوراة، فكان فى كلتا المناقشتين يفيض برفقٍ بالمعرفة العميقة فى مجال التصوف والصوفية، ويُضفى على المكان من رحيق روحه المحلّقة عالياً بأجنحة المحبة. وكان رحمه الله، هو الذى أوصى بنشر كتابى «عبدالكريم الجيلى فيلسوف الصوفية» فنُشر الكتاب فى سلسلة «أعلام العرب» التى كان يكتب فيها كبار الأسماء، عن كبار الأسماء.. وكنتُ آنذاك فى الخامسة والعشرين من عمرى.

ومع أن الدكتور التفتازانى كان متخصّصاً فى دراسة الفلسفة الصوفية، العميقة، ولغة «ابن سبعين» الموغلة فى الرمزية والاستغلاق، إلا أنه كان حريصاً على تبسيط المفاهيم الصوفية بأبسط العبارات، وكثير الاستشهاد بكلمات ابن عطاء الله السكندرى (حكيم الصوفية، صاحب كتاب: الحكم العطائية) وهو الذى نصحنى بعبارته الذهبية التى التزمتُ بها فى سنوات الابتداء: ادفنْ وجودك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يصلح دفنُه، لا يتمُّ نتاجه.

ومعنى عبارة ابن عطاء الله، للقارئ غير المتخصّص، هو أن المبتدئ يكون كالبذرة ولذلك يتعين عليه التوارى بقدر ما يستطيع، ولا يسعى لجذب الأنظار إليه أو استجلاب الشهرة، لأنه يحتاج الكمون اللازم للنضج. والبذرةُ التى لا تُدفن جيداً، قد تورق مؤقتاً لكن ثمارها لن تأتى، لأن نبتها لن يكتمل.. وهذه واحدة من قواعد التربية الصوفية، وهى فى الغالب تكون لأهل البدايات (المريدين) أما الدكتور التفتازانى فقد التزم بها حتى وهو شيخ مشايخ الصوفية فكان لا يسعى للشهرة والصخب، وقليلاً ماكان يُلبى دعوات الظهور التلفزيونى.

بعيداً عن هذا المسلك العام، ولسنواتٍ طوالٍ امتدت قُرابة عشر حجج، رأيتُ من «د. أبو الوفا التفتازانى» ورأيتُ فيه، كل ماهو فاضلٌ وراقٍ. وقد كثرت لقاءاتى به، بعدما صار رئيساً للجمعية الفلسفية المصرية، التى كان يدعم عملية إحيائها على يد د. حسن حنفى، وكان رحمه الله كثير التبرع للجمعية من ماله الخاص.وعلينا هنا أن نلاحظ أمراً دقيقاً، هو أن الاختلاف الفكرى والمنهجى بين د.أبو الوفا التفتازانى (المتصوّف، الهادئ) والدكتور حسن حنفى (اليسارى، المتدفّق) لم يكن عائقاً يحول دون التعاون المعرفى والأكاديمى، ولم يسع أحدهما لإملاء توجهاته الخاصة على الجمعية الفلسفية المصرية، التى غاب حضورها بغيابهم بسبب وفاة الأول، وشيخوخة الآخر ومرضه الأخير.

وخلال السنين التى عرفتُ فيها د.التفتازانى، وجدتُ فيه التجلى الأتم لما يجب أن يكون عليه المتصوف.. فهو هادئٌ دوماً، عميقُ النظرة والفكرة، مستغنٍ عما فى يده وغير ساعٍ لما ليس بيده، وصابرٌ على صروف الزمان. حتى حين أُصيب فى أواخر عمره بنوعٍ من الفالج(الشلل النصفى) الخفيف فاختلف نصف وجهه بسبب المرض، ظلّت عيناه باقيتين على حال الصفاء الأول، تفيضان بالسكينة التى طالما رأيتها تنعكس على صفحة عيناه الصافيتين.. وفى اللحظة التى نشرت الصحف خبر وفاته، بعد حياةٍ حافلة بالروحانيات الصوفية وبالعمل الأكاديمى الراقى وبالسيرة الشخصية العطرة، تذكرتُ من فورى المعنى الذى ورد فى الحديث: إن الله لا ينتزع العلم من الأرض انتزاعاً، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق