الخميس، 24 يوليو 2014

سِـرُّ الكَحُول

لا أحد يدرك سرَّ الارتباط القوى بين "الباشمهندس شحاته" ورفيق دربه النحيل ، متقوّس الكتفين والظهر"مصطفى كابوريا". والذين يظنون أنهم يدركون كل شئ، يتوهّمون أن ارتباطهما لا ينطوى على أى سرٍّ، أصلاً. فهذا مقاول يبنى شواهق مخالفة لقوانين البناء، وذاك صاحبه "الكحول" الذى يوقع عقود بيع الشقق لمشتريها، باعتباره صاحب العقار القديم والأرض، ومالك العمارة، والشريك الوهمى فى شركة المقاولات المسماة الآن "الفتح" وكان اسمها من قبل "مجموعة النور للمقاولات العمومية" وكانت قبل هذا القبل تسمى: العملاق للمقاولات.. وكلها تسميات على غير مسمى، ولا غرض لها إلا التهرب من الضرائب، ومن المسؤولية القانونية إذا انهار البناء أو وقعت واقعةٌ ، لا قدَّر الله
الباشمهندس شحاته لم يتم تعليمه، ولا يعلم من الهندسة إلا ما يردّده دوماً: الرجل زاوية قايمة، والمرأة زاوية نايمة.. ثم يضحك! لكنه بشهادة الجميع رجلٌ واعر، وذكى، ويحب عمل الخير أحياناً. أما مصطفى كابوريا فقد تخرج فى كلية التجارة من دون أن يتعلم فيها شيئاً مفيداً، ولما انعدمت أمامه فرص العمل أتاح له صاحبه القديم أن يعمل معه فى مكتب المقاولات، كحولاً، ويُسكنه فور تشاهق البناية المُخالفة فى الطابق الأخير منها، لتعويق أية عمليات إزالة مُحتملة، لحين الاحتماء بالسكان بعد الانتهاء من بيع الشقق للمشترين الأوائل بتسهيلات، وسُكانهم فيها. فتصير إزالة المبنى الآهل بالسكان، آنذاك، مستحيلة.
وهما يجتمعان كل ليلة فى مكتب المقاولات المؤقت، فى حدود الساعة التاسعة مساءً، ويبقيان معاً حتى وقتٍ متأخر من الليل. ولا يلتقيان فى النهار إلا لتوقيع عقد تمليكٍ لمشترٍ جديد، أو فى المناسبات الأخرى نادرة التكرار مثل ولائم العيد وحفل الإفطار الجماعى فى منتصف شهر رمضان.. وهى مناسبات ينفق فيها "شحاته" ببذخ، ويعطف على الفقراء باللحوم والكلام الطيب والمنح المالية.
* * *
الليلة الماضية التقيا كالمعتاد فى الطابق الأول من آخر العمائر المخالفة، حيث المكتب المؤقت لشركة المقاولات الوهمية. وكالمعتاد لم يكن أحدٌ معهما، وتخلَّلت الجلسة فتراتُ الصمت التى قد تقصر أو تطول، لكنها لا تمتدّ حتى ينسى أحدهما وجود الآخر .. فى هدأةٍ استطال زمانها بتأثير السُّطَل، سرح المقاول بخاطره فى تقلبات حياته التى لا معيار لسيرورتها، وسرى بأفكاره فى وفرة مسمياته. هو عند العاملين تحت إدارته يُدعى "الباشمهندس" وعند المتعاملين معه "الحاج" وعند قدامى معارفه "شحتة الملقاط" وعند زوجته الأولى أيام فقره "المنيّل" وعند الزوجة الحالية التى لم يعد يحبها "حبيبى" وعند فتياته الخليعات و المُستأجرات "حمادة" وعند موظفى الحى وتماسيح الحكم المحلى "أحمد بيه الشحات".. أين هو فى هؤلاء؟ ومَن هو.. سأل جليسه وقد انتصف بهما الليلُ:
- هوَّه أنا مين فى كل دول يا تيفا؟
- إنتَ ماشاء الله، زىّ الفل..
- الحمد لله، بس برضه.. أنا مين فى كل دول؟
- ياعمّ روَّق. مُش مهم تعرف، مفيش حدّ عارف حاجة أصلاً.
- لأ يا تيفا، لأ. فيه ناس كتير عارفة نفسها كويس.
- زىّ مين يعنى؟
- زىّ مثلاً.. مُش عارف، بس لازم يكون فيه ناس عارفة.. لازم ياتيفا.
- أيوه يعنى، لازم إيه بالظبط؟
- مُش عارف. ما علينا، إحنا ليه فتحنا أم الموضوع ده، ده مالوش آخر.
- ولا ليه أول.. بس الصراحة، الحشيشة دى تحفة.
- ياسلام، لسه واخد بالك دلوقتى. دى لعلمك قندهارى، زيت يعنى، جت لى مع واحد حبيبى من السعودية.
- إيه ده.. هوَّه أنت رُحت العُمرة قُريّب؟
- عُمرة إيه ياتيفا، شكلك مش واخد بالك.
- مش واخد بالى من إيه يا شحتة؟
- من الموضوع ده، اللى كُنَّا بنتكلم فيه مِنْ شوية.
- هوَّه كُنا بنتكلم!
- أيوة يا تيفا، كنا بنقول حاجة مهمة.
- ياسلام ياسلام، هوَّه لسه فيه حاجة مهمة..
- بقولك إيه يا تيفا. إنت شكلك كده فصلت، قوم روَّح أحسن، خلّى محسن السواق الجديد بتاعى يوصَّلك.
- يوصَّلنى فين يا عمّ، أنا ساكن هنا فى آخر دور.
- آه، صح. خلاص اطلع نام، أنا عايز أقعد مع نفسى شوية.
- ماشى يا شحتة، سلام.
* * *
ببطء المسطولين قام "مصطفى" ليصعد إلى الطابق الثامن عشر، حيث شقته الوحيدة الآهلة بالمبنى المتشاهق، وحيث تسكن وتستكين زوجته السمراء الفاتنة "سلمى" أو تنام الآن آمنةً.. استغرق صعوده السلم المطمور ببقايا مواد البناء، قرابة نصف ساعةٍ لم يشعر بمرورها عليه، كالمعتاد. على الدرجات ترنَّحت خواطرُه مع خطواته، مع وقفاته المتوالية لالتقاط الأنفاس والأفكار المتفرقة الدافقة التى لا رابط بينها، وليس لها ضابط، ولا يمكن التعبير عنها بدقةٍ إلا بالمفردات التى همس بها سراً لنفسه: .. العمارة دى فيها حسنة حلوة، يمكن تدخل فى خمسة ولّا ستة مليون.. حلال عليك يا صاحبى.. أنا نصيبى ملاليم، كل عقد باخد عليه خمس تلاف جنيه.. بس حلوين.. ليه شحتة ما يركِّبش الأسانسير قبل ما يبنى العمارة.. آه يانى.. سلمى بنت العبيطة بتقوللى إن شحتة عينه منها، وبيبص لها بطريقة قال إيه مُش كويسة.. بتستهبل .. هو يعنى ناقص نسوان، ولاَّ هىَّ يعنى جميلة الجميلات.. كلام النسوان يودِّى فى داهية.. عايز اشترى عربية مستعملة .. سلمى عايزانى أسيب شحتة واشتغل لوحدى وأبقى مقاول.. الحكاية مش سهلة.. بس الحشيشة النهاردة حلوة.. ياااه، فاضل دور واحد بس..لأ، دورين.. أول حاجة هاعملها، أصحى سلمى .. ويمكن ألاقيها صاحية.. أيوة .. ونسهر بقى.. بكرة الضهر فيه عقدين، يعنى فيه عشر تلاف جايين.. حلوين.. أنا جعان.. بت يا سلمى.
* * *
خلال النصف ساعة الصاعدة من الطابق الأول إلى الثامن عشر، كان "شحتة" يُهاتف سلمى بصوتٍ ناعم كملمس الحيّات.. لو تنصّت أحدٌ على المكالمة، سوف يسمع مايلى:
- مساء الخير يا سلمى.
- مساء النور يا شحتة، خير، مصطفى نسى تليفونه عندك تانى؟
- لأ، بس هو لسه طالع. أنا قلت أقولك، واطّمّن عليكى بالمرة.
- طيب، متشكرة .. هاقوم اسخَّن له الأكل.
- لحظة بس، أنتى ليه يا سلمى بتهربى منى كده. طَبْ، لحدّ إمتى يعنى.
- عاوز إيه يا شحتة؟
- إنتى عارفة..
- يا معلم شحته عيب كده والله، وبعدين مصطفى صاحبك يعنى، ومن زمان كمان.
- ماشى، صاحبى.. بس أنا غاويكى أوى، ولولاكى ما كنتش شغلته معايا.
- يعنى ياشحتة، ما انا كنت قدامك سنين وايام.
- كنت أعمى.
- وبعدين مصطفى طيب، وغلبان.
- واللهِ وأنا أغلب منه. وبحبّك يا سلمى، وهاموت عليكى .
- يا سلام.. وكل الستات اللى معاك دول، بيعملوا إيه.
- ولا حاجة، كلهم أى كلام. أنا بحبّ واحدةبس، بس هىَّ قاسية علىَّ شويتين.. ليه القسوة يا سلمى؟
- خلاص بقى يا شحتة، نكمل كلامنا بعدين، شكله كده قرّب يوصل.
_ وانا بقى إمتى هاوصل؟
_ الصبر يا خويا مفتاح الفرج.
_ ماشى يا سلمى، نُصبر علشان خاطرك.
_ خلاص وصل، مع السلامة يا شحتة.
_ مع السلامة يا روح شحتة.
* * *
لم يعرف أحدٌ سِرَّ الارتباط القوى بين المقاول و الكحول، إلا يوم باغتنا الزلزالُ الذى هزَّ الشواهق و شقَّقَ جنباتها.. لحظة وقوعه المفاجئ، كان "مصطفى" جالساً على المقهى المجاور لمحطة قطار أبى قير، المحطة الأخيرة، وكان يستمتع بانتصاره على "مسعود النَّنوس" فى لعبة الدومينو، ويستمع لتفسير كلمة كَحُول من "أسامة خُلخُل" رفيق صباه الذى كان يلتقط معه سرطانات البحر من حوافّ صخور البحر الحىّ. أيام كانت أبو قير منسيةً، وقبل أن تصيراليوم منسيةً ومنهوبةَ الأرض. كان أسامة الذى أصبح مُدرِّساً بائساً، يُخبره بأن كلمة كَحُول "رائعة" بحسب تعبيره، وأصلها جميل، لأنها تعنى الثور الصغير الذى تكون عيناه مُكحّلتين بخطٍّ أسود شديد اللمعان، وجميلتين. فلما وقعتِ الزلزلةُ، جرى الجميع على غير هدى و اندفع "مصطفى كابوريا، الكَحُول" إلى ناحية البناية المخالفة التى يسكنُ بطابقها الأخير، و وقف قُبالتها مع بقية المذهولين ينتظر الاطمئنان على زوجته الفاتنة السمراء.
و لحظة وقوعه المفاجئ، كان المقاول يُغلق من الداخل باب مكتبه المؤقّت الكائن بالطابق الأول، و ينهل من المتع التى لا حدود لها. فلما وقعتِ الزلزلةُ، وتدفّق الرعبُ، طاش عقله فاندفع هو و"سلمى" السمراء الفاتنة إلى الشارع.. عاريينِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق