سألنى أحدُ الأحبة عن "المعيار" الذى يتم به تحديد ما هو (قيمة) فأجبته بأنه معيارٌ بسيطٌ، واضحٌ كشمس النهار فى الصحراوات. فالقيمةُ هى الشىء الذى يجعل الفرد المستمسك به، موصوفاً بالفضيلة. وإذا تخلى عنه أو ابتعد، صار موصوفاً بالرذيلة (وكذلك الحال فى شأن الجماعات والمجتمعات). والبون شاسع، بداهةً، بين الفضائل والرذائل الفاضحة! وفقاً لما أشار إليه المؤلف المصرى القديم، الذى عُرف بلقب "الوطواط" فى عنوان كتابه: غُرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائص الفاضحة.
والقيمة شأنٌ إنسانىٌّ لا ينطبق إلا على النوع البشرى، تحديداً، حتى وإن اتّصفت بعض الحيوانات بخصائص واضحة قد تُسمَّى "فضائل" على سبيل المجاز، كما هو الحال فى إخلاص الكلاب لأصحابها. فذلك لا يعنى كون الكلب صاحب "فضيلة" أو مستمسكا بقيمة، وإنما هو فى واقع الأمر صاحب "طبع" خاص، فهو يُخلص بالطبع لا بالاختيار. وليس بمقدوره الاستمساك بهذا الإخلاص، أو التخلّى عنه، مثلما هو الحال فى الإنسان الذى قد يحافظ على إخلاصه فيصير فاضلاً، أو يكون خائناً فيتصف بالرذيلة والنقيصة الفاضحة. وعلى ما سبق، فالقيم هى تصوُّراتٌ ذهنية وقواعدُ عقلانية، يتميز بها البشر على وجه الخصوص ولا تتوافّر فى بقية الكائنات الحية، بل هى ما يفترق به الإنسانُ عن أنواع الحيوان. ولذلك، طالما اهتم المفكرون والفلاسفة ببيان طبيعة "القيم الإنسانية" وتبيان أهميتها للفرد والجماعة. وعلى ما سبق أيضاً، فإن من أهم القيم المؤدية إلى الفضائل الإنسانية، أن يكون الشخص "مُصلحاً" مهما يكن من اتساع المساحة التى يُمارس فيها فعل الإصلاح، أو محدوديتها.
ولا تكون الجماعة الإنسانية "فاضلة" إلا إذا كانت تُعنى بالصلاح والإصلاح. وهو معنى الآية القرآنية ذات الصبغة (الشرطية) التى يغفل عنها كثير من الناس (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وهى الآية التى يمكن فهم معناها بوضوح، بصياغتها دلالياً دون تقديم الحكم وتأخير الشرط، بحيث تكون: "حين تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، تكونوا خير أمة أُخرجت للناس". أى أن حُكم الخيرية، تابعٌ مشروطٌ بالأمر بما هو صالح، والنهى عن الفاسد.
وقد اهترأت معانى هذه القيمة "الإصلاح" وتم ابتذال لفظها ومدلولاتها، بسبب الإسراف فى استعمالها ببلادنا فى السنوات التى سبقت ثورة يناير 2011 مراعاةً لبعض المتغيرات الدولية والاستجابات الداخلية، المراوغة. فقد نصحت الإدارة الأمريكية نظام مبارك بعد فضائح الانتخابات البرلمانية بمصر سنة 2005، بأن يُجرى تعديلات أساسية فى البناء السياسى، ويعيد توازنات القوى، بما يتناسب مع رؤية ومصالح الأمريكيين. ويضمن أيضاً بقاء حليفهم مبارك! وكان نصحهم هذا يتم سراً وعلانية، وتعكسه بيانات الإدارة الأمريكية المصرَّح بها على الملأ، وكانت كلها تدور حول محورٍ واحد ومطلبٍ أساسى نت الحكومة المصرية، هو بحسب اللفظة الإنجليزية التى استعملها الأمريكيون Re - Form وكان من الواجب علينا ترجمتها "إعادة صياغة". لكن نظام مبارك ترجمها: الإصلاح.
وعلى الطريقة المصرية المعتادة، المعتادة على "الزفة"، انتشرت فجأة بعد العام 2005 مفرداتُ كلمة (الإصلاح) بالصحف، والمهرجانات الإعلامية. ثم توّجت الحكومة الهرج السياسى، بمؤتمرات الإصلاح التى انعقدت بمكتبة الإسكندرية لعدة سنوات وتم إنفاق الملايين عليها، وكان "مبارك" يفتتحها بنفسه لتأكيد اهتمامه بالموضوع، أو بالأحرى تأكيد الحرص على تمييعه وابتذال مضمونه.
وكانت نتيجة هذا الهرج، ما رأيناه من سقوط مروع لنظام مبارك (الذى يحاول اليوم استعادة سلطانه على البلاد) ومن وقوف مصر على حافة أخطارٍ لا حصر لها. لماذا؟ لأن الفساد ازداد تحت مظلة "الإصلاح" الذى كان أصلا مخايلة ومخاتلة للداخل والخارج، ولم يشهد الناس أى فعل إصلاحى. ومع تكرار المرار، صارت كلمة (الإصلاح) تثير فى نفوس الناس التقزز، وتوصلهم إلى اليأس العام العارم الذى كان أحد أهم مثيرات الثورة التى أطاحت بمبارك وبنظامه. أو بالأدق، أطاحت به وبالجماعة المشهورين فى نظامه.
وعلى صعيدٍ آخر، أخطأ كثيرٌ من مؤرخينا الذين لا يؤرِّخون، وباحثينا الذين لا يبحثون، حين وصفوا حركات الإسلام السياسى المبكرة بتسميةٍ مراوغةٍ فقالوا "تيار الإصلاح الدينى" قاصدين بذلك تلك الحركة السياسية التى ابتدأت مع "الأفغانى" واغتيل بسببها شاه إيران، ثم تطورت فى مصر على يد "محمد رشيد رضا" الذى خرجت من عباءته جماعة الإخوان المسلمين، التى أفرزت بالقرب منها "جماعات إسلامية" متعدّدة جعلت من نفسها فقط (الإسلامية) دون بقية المجتمع المصرى (المسلم) بالديانة أو بالثقافة السائدة. ومن يومه الأول حتى يومنا هذا، لم يقدم "تيار الإصلاح الدينى" أى إصلاح! ولم تتجلى آثاره إلا على هيئة الاغتيالات (شاه إيران، النقراشى. إلخ) والتقافز على السلطة، والعنت مع المخالفين وتكفيرهم أحياناً، ناهيك عن تفتيت البلاد سعياً لإقامة "الخلافة" التى ستكفل لهم أن يكونوا فيها، هم الخلفاء والسلاطين والأمراء والمسئولين الكبار والمستولين على المقاليد. ومع هذه الدواهى أضحى معها لفظ "الإصلاح" دينياً أو حكومياً، بلا دلالة.
لكن هذه الألعاب السياسية والتحريفات الدلالية، لا يجب أن تصرفنا عن إعادة النظر لاستعادة الدلالة الأصلية للمفردات، ومن ثمَّ معاودة تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مخايلات سياسية وسلطوية. لأن (الإصلاح) فى حد ذاته، قيمةٌ أساسيةٌ لازمةٌ للحفاظ على المجتمع والارتقاء به، ولا غنى عنها بحالٍ من الأحوال.
- إضافةٌ ضرورية:
انتهيتُ من كتابة هذه المقالة صباح يوم الجمعة الماضى، ويومها جرى أمامى أمرٌ تكدَّرت بسببه روحى، فكتبتُ على صفحتى بالفيسبوك ما يلى:
اليوم، ولأول مرة منذ شهور، ضخَّتْ إحدى السفن الداخلة إلى ميناء الإسكندرية كمية كبيرة "وهائلة" من الزيت الفاسد، فصارت الشواطئ كلها ملوَّثة. طاردة للأسماك. جالبة للأمراض الجلدية. قبيحة المنظر. وسوف تدفع مصر غرامات كبيرة، بسبب ذلك، لهيئة الموانى الدولية التى تراقب حركة الملاحة البحرية.
لو كنتُ مكان الرئيس السيسى، لأقلتُ فوراً المسئول عن ذلك الذى يستهين به الفاسدون من ملاحظى السفن، ويتقاضون من تلك السفن رشوة (قدرها فى العادة، ألف دولار) تدفع مصر فى مقابلها أكثر من مائة ألف دولار غرامة، ناهيك عن الأضرار الأخرى التى تلحق بالبلاد والعباد.
والقيمة شأنٌ إنسانىٌّ لا ينطبق إلا على النوع البشرى، تحديداً، حتى وإن اتّصفت بعض الحيوانات بخصائص واضحة قد تُسمَّى "فضائل" على سبيل المجاز، كما هو الحال فى إخلاص الكلاب لأصحابها. فذلك لا يعنى كون الكلب صاحب "فضيلة" أو مستمسكا بقيمة، وإنما هو فى واقع الأمر صاحب "طبع" خاص، فهو يُخلص بالطبع لا بالاختيار. وليس بمقدوره الاستمساك بهذا الإخلاص، أو التخلّى عنه، مثلما هو الحال فى الإنسان الذى قد يحافظ على إخلاصه فيصير فاضلاً، أو يكون خائناً فيتصف بالرذيلة والنقيصة الفاضحة. وعلى ما سبق، فالقيم هى تصوُّراتٌ ذهنية وقواعدُ عقلانية، يتميز بها البشر على وجه الخصوص ولا تتوافّر فى بقية الكائنات الحية، بل هى ما يفترق به الإنسانُ عن أنواع الحيوان. ولذلك، طالما اهتم المفكرون والفلاسفة ببيان طبيعة "القيم الإنسانية" وتبيان أهميتها للفرد والجماعة. وعلى ما سبق أيضاً، فإن من أهم القيم المؤدية إلى الفضائل الإنسانية، أن يكون الشخص "مُصلحاً" مهما يكن من اتساع المساحة التى يُمارس فيها فعل الإصلاح، أو محدوديتها.
ولا تكون الجماعة الإنسانية "فاضلة" إلا إذا كانت تُعنى بالصلاح والإصلاح. وهو معنى الآية القرآنية ذات الصبغة (الشرطية) التى يغفل عنها كثير من الناس (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وهى الآية التى يمكن فهم معناها بوضوح، بصياغتها دلالياً دون تقديم الحكم وتأخير الشرط، بحيث تكون: "حين تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، تكونوا خير أمة أُخرجت للناس". أى أن حُكم الخيرية، تابعٌ مشروطٌ بالأمر بما هو صالح، والنهى عن الفاسد.
وقد اهترأت معانى هذه القيمة "الإصلاح" وتم ابتذال لفظها ومدلولاتها، بسبب الإسراف فى استعمالها ببلادنا فى السنوات التى سبقت ثورة يناير 2011 مراعاةً لبعض المتغيرات الدولية والاستجابات الداخلية، المراوغة. فقد نصحت الإدارة الأمريكية نظام مبارك بعد فضائح الانتخابات البرلمانية بمصر سنة 2005، بأن يُجرى تعديلات أساسية فى البناء السياسى، ويعيد توازنات القوى، بما يتناسب مع رؤية ومصالح الأمريكيين. ويضمن أيضاً بقاء حليفهم مبارك! وكان نصحهم هذا يتم سراً وعلانية، وتعكسه بيانات الإدارة الأمريكية المصرَّح بها على الملأ، وكانت كلها تدور حول محورٍ واحد ومطلبٍ أساسى نت الحكومة المصرية، هو بحسب اللفظة الإنجليزية التى استعملها الأمريكيون Re - Form وكان من الواجب علينا ترجمتها "إعادة صياغة". لكن نظام مبارك ترجمها: الإصلاح.
وعلى الطريقة المصرية المعتادة، المعتادة على "الزفة"، انتشرت فجأة بعد العام 2005 مفرداتُ كلمة (الإصلاح) بالصحف، والمهرجانات الإعلامية. ثم توّجت الحكومة الهرج السياسى، بمؤتمرات الإصلاح التى انعقدت بمكتبة الإسكندرية لعدة سنوات وتم إنفاق الملايين عليها، وكان "مبارك" يفتتحها بنفسه لتأكيد اهتمامه بالموضوع، أو بالأحرى تأكيد الحرص على تمييعه وابتذال مضمونه.
وكانت نتيجة هذا الهرج، ما رأيناه من سقوط مروع لنظام مبارك (الذى يحاول اليوم استعادة سلطانه على البلاد) ومن وقوف مصر على حافة أخطارٍ لا حصر لها. لماذا؟ لأن الفساد ازداد تحت مظلة "الإصلاح" الذى كان أصلا مخايلة ومخاتلة للداخل والخارج، ولم يشهد الناس أى فعل إصلاحى. ومع تكرار المرار، صارت كلمة (الإصلاح) تثير فى نفوس الناس التقزز، وتوصلهم إلى اليأس العام العارم الذى كان أحد أهم مثيرات الثورة التى أطاحت بمبارك وبنظامه. أو بالأدق، أطاحت به وبالجماعة المشهورين فى نظامه.
وعلى صعيدٍ آخر، أخطأ كثيرٌ من مؤرخينا الذين لا يؤرِّخون، وباحثينا الذين لا يبحثون، حين وصفوا حركات الإسلام السياسى المبكرة بتسميةٍ مراوغةٍ فقالوا "تيار الإصلاح الدينى" قاصدين بذلك تلك الحركة السياسية التى ابتدأت مع "الأفغانى" واغتيل بسببها شاه إيران، ثم تطورت فى مصر على يد "محمد رشيد رضا" الذى خرجت من عباءته جماعة الإخوان المسلمين، التى أفرزت بالقرب منها "جماعات إسلامية" متعدّدة جعلت من نفسها فقط (الإسلامية) دون بقية المجتمع المصرى (المسلم) بالديانة أو بالثقافة السائدة. ومن يومه الأول حتى يومنا هذا، لم يقدم "تيار الإصلاح الدينى" أى إصلاح! ولم تتجلى آثاره إلا على هيئة الاغتيالات (شاه إيران، النقراشى. إلخ) والتقافز على السلطة، والعنت مع المخالفين وتكفيرهم أحياناً، ناهيك عن تفتيت البلاد سعياً لإقامة "الخلافة" التى ستكفل لهم أن يكونوا فيها، هم الخلفاء والسلاطين والأمراء والمسئولين الكبار والمستولين على المقاليد. ومع هذه الدواهى أضحى معها لفظ "الإصلاح" دينياً أو حكومياً، بلا دلالة.
لكن هذه الألعاب السياسية والتحريفات الدلالية، لا يجب أن تصرفنا عن إعادة النظر لاستعادة الدلالة الأصلية للمفردات، ومن ثمَّ معاودة تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مخايلات سياسية وسلطوية. لأن (الإصلاح) فى حد ذاته، قيمةٌ أساسيةٌ لازمةٌ للحفاظ على المجتمع والارتقاء به، ولا غنى عنها بحالٍ من الأحوال.
- إضافةٌ ضرورية:
انتهيتُ من كتابة هذه المقالة صباح يوم الجمعة الماضى، ويومها جرى أمامى أمرٌ تكدَّرت بسببه روحى، فكتبتُ على صفحتى بالفيسبوك ما يلى:
اليوم، ولأول مرة منذ شهور، ضخَّتْ إحدى السفن الداخلة إلى ميناء الإسكندرية كمية كبيرة "وهائلة" من الزيت الفاسد، فصارت الشواطئ كلها ملوَّثة. طاردة للأسماك. جالبة للأمراض الجلدية. قبيحة المنظر. وسوف تدفع مصر غرامات كبيرة، بسبب ذلك، لهيئة الموانى الدولية التى تراقب حركة الملاحة البحرية.
لو كنتُ مكان الرئيس السيسى، لأقلتُ فوراً المسئول عن ذلك الذى يستهين به الفاسدون من ملاحظى السفن، ويتقاضون من تلك السفن رشوة (قدرها فى العادة، ألف دولار) تدفع مصر فى مقابلها أكثر من مائة ألف دولار غرامة، ناهيك عن الأضرار الأخرى التى تلحق بالبلاد والعباد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق