الخميس، 26 يونيو 2014

كهفٌ بحرى


ما جرى معى عجيبٌ.. ولو قصصتُ بدء الحكاية، و مُنتهاها، فلن يصدّقنى معظم الناس. لكننى سأحكى، لعل واحداً منهم يكون له قلبٌ يُلقى السمع وهو شهيد، ولا شأن لى بالباقين: 
عند طرف المنطقة المسماة اليوم باسمٍ مثير للرثاء ، وكان اسمها فيما مضى "كانوبيس" هناك ناحيةٌ بحريةٌ خاويةٌ فى غالب الأوقات، يمكن للناظر من عندها إن صَفَتِ السماءُ، أن يرى فى المدى البحرى جزيرةً. لا هى بالقريبة من الشاطئ، ولا بالبعيدة. الوصولُ إليها يحتاج إبحاراً لمدة ساعةٍ بقاربٍ بطىء، أو لمدة ساعتين من العوم النشط.
.. طالما وقفتُ هناك ساكناً، أرقبُ من موضعى المأمون على الشطِّ تلك الجزيرة الصغيرة، وأشطُّ أحياناً فأحلم بالذهاب يوماً إليها. ومع دوام الحلم غَدَا إلحاحاً لا يُردّ، ومع إدامة النظر اهتاجت الفِكَرُ. فسألتُ الصيادين، عساهم يأتوننى بخبرٍ عنها أو أجد فى تجديفهم حولها الهُدى.. فى البداية استغربوا سؤالى، ثم ترفَّقوا بى فأفادوا بأن الجزيرة مهجورةٌ منذ الزمن البطلمى، لأن المسلمين الغزاة الفاتحين الذين كانوا يحبون ركوب المخاطر، ما كانوا يحبِّذون ركوب البحر؛ فلما أهملوا الجزيرة ولم يقيموا فيهامسجداً، نسيها الناسُ.
بعدما امتدت بيننا خيوطُ مودّةٍ، استخبرتُ من الصيادين عما تحويه الجزيرة فقالوا لا شىء، إلا صخورٌ فيها تجاويف وحولها كائناتٌ بحريةٌ ملونةٌ تُكهرب الماء دوماً فتهرب الأسماكُ، ولا يحوِّم صيادون ولا صقور.. قلتُ لهم خذونى إليها ، فضحكوا ، ولما ألححتُ قالوا اذهبْ وحدك إذا أردتَ الذهاب، واعلمْ أن السلامة ليست فى الجلوس فوق الغمامة. لم أفهم مرادهم، فاستفهمتُ، فقال أوسطهم: لا يُبحر للجزيرة إلا وحيدٌ طحنته وحدتُهُ حتى أدرك أن البقاء، لا يتحقّق إلا بعد فناء الفناء.
* * *
فجرَ اليوم، صحوتُ من نومى مصحوباً بحماسٍ نادرٍ وخرجتُ من دارى قاصداً المستحيل الذى صار بالهمة ممكناً، وتأسيتُ بقول الشاعر الفاجر المفِّجر: ولى همةٌ من هَمِّ صاحبها، أدركتها بجوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ.
ذهبتُ بلا زوَّادة، ولم أقف إلا دقيقةً واحدةً على الشط وبعدها شططتُ فأبحرتُ بذراعىَّ وقدمىَّ مغالباً الموج حتى غلبته، وكان إغواءُ التوغُّلِ فى البحر يغوينى بالتقدُّم وحيداً، إلى هدفى الوحيد.. فى منتصف المسافة الممتدة بين الشاطئ والجزيرة، شعرتُ بأنها سياحةٌ عروجيةٌ وما هذا الموج إلا درجاتُ سُلَّمٍ، أرتقيه بروحى. بعدما استطال قعودى على الدِّمن التى دَرَسَتْ بتكرار الرياح الأربعِ، حسبما قال الشيخ الرئيس.
وصلتُ الجزيرة قبيل الضحى، فأضحى الحلم حقيقة تصرخ فى داخلى بصدقِ الرضيع قائلةً: الهمّةُ تقهر التوهُّم المسمَّى "مستحيل".. وحيل بينى وبين الشاطئ المدى، والموجُ، فكنتُ من الناجين الذين هربوا من زمرة الهالكين الواقفين على الشطوط الآمنة. الآمنة كذباً وزوراً.
* * *
حَوافُّ الجزيرة حادةُ الصخور وجارحةٌ لمن لا ينتبه، كأنها تذكِّر القادمين بالحكمة القديمة الخالدة: الغافلُ لا محالة مجروحٌ. بحرصٍ بالغٍ عبرت صخوراً لها شكل الإسفنج وليس لها ملمسه، فلما استويت على الرمال الممزوجة بنتؤاتٍ صلدة تعلو فى بعض المواضع، وتكثر فيها التجاويف. أُلقى فى روعى الكشفُ الأول، بلا تمهيد، فأدركتُ أن الماء أقوى الأشياء لأنه يجعل الراسخ يرتجّ، ويُحيل الصخور الصُّلبة إلى ما يشبه اللوف.
الجزيرة لا تزيد مساحتها عن سبعمائة مترٍ مربع، لكن الواقف فى ناحيةٍ منها لايرى النواحى الأخرى، لأن الصخور العالية المجوَّفة تحول دون امتداد النظر فى كل الأنحاء.. سرتُ برفقٍ خطوتين، فدهمنى الكشفُ الثانى وأُلهمتُ أن الصخر يعوق النظر، وأن الكثافة سببُ السخافة، وأن مَنْ أراد إدراك الهواء لابد له أن يصير كالهواء. لأن الشبيه يدرك الشبيه. وفق قول المعلم الأول، الذى تعلَّم طويلاً من أفلاطون الإلهى، ثم علَّم.
جلستُ بوسط الجزيرة، تظّلنى شمسُ الضحى وتحوطنى المشاهدُ كلها: الماءُ المحيط، الصخرُ المستسلم، الهواءُ المغرِّد عبر التجاويف، الرمالُ الأبهر منظراً من طحين الأحجار الكريمة.. أين الأحياء؟ لا أحد حولى من الناس أو الطير أو الشجر. كأنها البقعة التى ابتدأت منها الحياة، قبل أن تبتدئ منها الحياة. وحيثما انعدمتِ الحياةُ والموتُ، معاً، ساد الأنحاءَ الصفاءُ.. كان ذلك هو الكشفُ الثالث الأخير، الذى أُريته قبل انكشاف السرّ الخطير.
* * *
بُعيد الظهر طوّفتُ بالجزيرة مرتين، فلم أر فى المرة الأخرى غير ما رأيت فى الأولى. وتهيَّأت للرجوع إلى حيث أتيت، ناوياً الرجوع بعد يومين إلى هذا المكان الساحر لأهل الانتباه، وليس للغافلين فيه نصيب.. فجأةً، سمعتُ ضحكةً خافتةً أتت من الجانب الأيمن ، حيث تعلو الصخور وتخفى بجوفها مغارةً لطيفة الاتساع، لا تكفى إلا لمعيشة "فرد" واحد.
تزحَّفتُ كسرطان البحر على سطح الصخور، حتى رأيتُ المغارة وساكنها. هو لم يلتفت نحوى، أو هى لم تلتفت، وكأننى لم أفاجئه من حيث لم يحتسب، أو أفاجئها. العجيبُ أننى لم أرتبك مما رأيتُ ولم ارتجف خوفاً من ساكن المغارة، كأننى كنتُ أراه بقلبى من قبل، أو أتوقَّع اللقاء به.
هيئته مهيبة. فيها رهبةُ عجوزٍ تخطَّت من عمرها المائة عام، وجلالُ شيخٍ نشأ فى النور شاباً وشاب فىه حتى صار كله أبيض. اقتربتُ متلطفاً، فرأيتُ واحدةً من أقل غرائبه إثارة: كان يجلس فوق سطح الماء أمام مغارته، متمكناً، كأنه المستوى على عرشٍ وثير. وكانت تطفو على صفحة الموج من حوله خيوطٌ دقاق، تتموجُ مع الماء وتلمعُ، بعضها معقَّودٌ معاً وبعضها الآخر مفردٌ محلول. وبين الحين والحين يلتقط بأطراف أصابعه من الماء خيطين، فيعقد بينهما ويعيدهما إلى الطفو، أو يلتقط ما كان معقوداً ومعقداً، فيفكُّه ويباعد بين الخيطين ثم يعيدهما إلى البحر، فيتخذان سبيليهما فى البحر سَرَباً وقد بُوعد بين طريقيهما، وعندئذٍ يضحك ضحكةً خافتةً كتلك التى دلّتنى على موضعه المستتر.
اقتربتُ منه بخطى عنكبوتٍ خائفٍ، وبخفوتٍ ألقيتُ السلام فردَّه من دون أن يلتفت عما يفعله. ولما رأيته غير منزعجٍ من إزعاج اقترابى منه، تشجَّعتُ وسألته إن كان رجلاً أم امرأةً، فقال: إنسان.. سرحتُ بعينى فوق تجاعيد الموج، وساحتْ خواطرى فى آفاق المعنى العميق الكامن فى كلمته المفردة، حتى فهمتُ إشارته فعدتُ إلى مؤانسته بسؤالٍ عن تلك الخيوط، فقال: هى نياط القلوب.. فأخرجنى الانبهارُ عن إطار الوقار، وصحتُ فرحاً بما ظننته وقوع العين على العين، فرفعتُ صوتى قائلاً بنبرة الابتهاج: 
- أنت إذن من أهل الحلّ والعقد..
- وهل للحلّ والعقد أهل!
- نعم، هم حكماء الحكومات.
- وهل فى الحكومات حكمة!
- ياسيدى، أو سيدتى، كيف يجوز الردُّ على سؤالى بسؤال .
- وأين سؤالك . لو سألتَ ، لكنتَ قد قطعت نصف الطريق. لكنك بَعْدُ بعيد.
فهمتُ من إشارته أننى لم أحسن معه الحديث، ولولا الرفق الذى يزدان به حضورُه ويتزيِّن مجلسه السابح فوق الماء والهواء، لما جاذبنى أصلاً أطراف الكلام، ولكان قد كفى نفس مجاوبة الجهلاء.. طيب، سأوقد في ظلام النفس مصباحى، لترى روحى سبيل الخلاص من ربقة الجسد، وتستقبل من السماء المدد.
ساعة الغروب انكشف لى شيئاً من المستور وتهتّكتْ بالإشراق الحُجُبُ و الستورُ، فاستطعتُ بعون العلاَّم الارتقاء إلى مستويات السؤال وقلتُ له إننى تجرَّدتُ منى فأدركتُ حقيقة الحال، وعرفت أن ما يفعله هو سبب الشدّ والصدّ بين القلوب في عالم الصخب الدنيوى، وكل خيطٍ من هذه السابحة من حوله هو مصير قلبٍ سوف يحبُّ أو يثوبُ من حُبٍّ.. فابتسم ونظر إلىَّ بعين رحيمة، وقال: 
- بل هو رمز لزمرة من الناس لا تحصى، تُحبُّ أو تُحرم على نحوٍ مخصوص، من غير أن تدرى بسرِّ السبب.
- فلماذا تضحك أحياناً حين تحل ما انعقد بين قلوب المحبين..
- يضحكنى اندهاشهم من أحوالهم، حين ينظر أحدهم إلى الآخر بعد الهيمان والذوبان، فلا يجد محبوبه محبوباً. فيحتار. فكأنه أدرك أولاً سببَ اللهفة وسرَّ الأُلفة، فيجوز له استغرابُ سرِّ الوحشة وسببِ الاغتراب.
- عجيبٌ هذا اللهو الذى تفعله بالقلوب.
- لهو!
- عفواً.. اغفرْ لى تخبُّل التعجُّل، فقد جنَّ الليلُ وأخذنى الدوار لابتعاد الديار، فما عدتُ قادراً على انتقاء المفردات، و لا تؤاخذنى فإننى مأخوذٌ.
- مادمتَ قد عرفت ذلك، فاهدأ قليلاً إلى أن يطل عليك القمرُ المنير، فترى على ضوئه المعانى والكلمات.
- وهل ستبقى معى إلى ذلك الحين.
- سأبقى معك حتى يشرق فجرك.. لأنك غامرت بالإبحار، وأردت استكشاف سرِّك و بقية الأسرار.
* * *
قُبيل الفجر جرى الكلام بيننا كالماء، مجدَّداً، بعدما كنتُ قد تأدَّبتُ طيلة الليل بالطرائق الأربعة المعروفة، الجوع والسهر والصمت والخلْوة. فارتقيتُ رويداً، وأنزلتُ الناس منازلهم، وعرفتُ كيف تُصاغ الأسئلة. فجاوبنى، حتى توسَّطت الشمسُ قلب السماء فأشار إلىَّ بضرورة رجوعى الآن، بسلام، ولكن بلا أملٍ في لقاءٍ جديد.. قال: لقاءٌ كهذا لا يكون لمثلك إلا مرةً واحدة في العمر، فهذا يكفيك ويزيد عن احتمالك، ومكتوب لك لقاءٌ آخر مع "فردٍ" آخر.
في طريق رجوعى للشاطئ المؤقت سابحاً، سبحتْ خواطرى في الواردات التى تجلَّى بها هذا الإنسان، الذى هو حسبما فهمتُ منه. ليس رجلاً أو امرأة، لأنه تحقَّق بالمقامينِ. المقام الأنثوى والمقام الأبوى، معاً، فصار واحداً من "الأفراد" الخارجين عن نظر القطب. المؤَّكلين بإنفَاذ الإرادة التى لا رادَّ لها في العالم الأرضى، وفق تجليات الأمر و النهى.
وعرفتُ منه معانٍ دقيقة، منها معنى: "قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبه كيف يشاء ".ومعنى:" لا جُناح لمن غلبه الأمر المتاح" . ومعنى: "البُعد والقُرب واحدً". ومعانٍ أخرى عديدة. وأخبرنى قبل افتراقنا بأن في هذا الكون عباداً آخرين، غيره، آتاهم الرحمنُ رحمةً من عنده وعلَّمهم العليمُ من لدنِّه علماً.. منهم ساكن السرداب. وبشَّرنى بلقاءٍ سوف يجمعنى بهذا الساكن، في وقتٍ مخصوصٍ، إنفَاذاً لأمرٍ كان قد قُدر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق