الأربعاء، 11 يونيو 2014

منظومةُ القيم المصرية (الاهتراءُ)


فى ختام مقالة الأسبوع الماضي، اختتمتُ الكلام بإشارة إلى الخطر العام المتمثل فى اهتراء منظومة القيم المصرية خلال الفترة الماضية، وأشرتُ إلى ضرورة الاهتمام بهذه المسألة المصيرية. ليس فيما يخص مستقبل الرئيس الجديد، فحسب، وإنما فيما يخص المصير المصرى عموماً. ولإيضاح المراد من ذلك، بدقةٍ، نُحدِّد فيما يلى دلالات هذه المفردات الثلاثة (قيمة، منظومة، اهتراء) ليظهر المعنى لأذهاننا بشكل أنصع: 
القيمة، هى كل ما يُعتد به ويُعد من الفضائل الأساسية فى حياة الناس. والقيم الكبرى المعروفة منذ القدم، ثلاثة (الحق، الخير، الجمال) وتتفرَّع عنها قيمٌ أصغر أو أكثر تفصيليةً، ترتبط بشكل مباشر بالقيم الثلاثة الكبرى وتتواصل معها على نحو غير مباشر. لكنها لا يمكن أن تبتعد عنها بشكلٍ تام، مثلما هو الحال فى قيم من مثل: الإخلاص (فى العمل والحب) الانتماء (للأسرة والوطن) الصدق (فى القول والفعل). إلخ. 
ومنظومة القيم، هى الارتباط العضوى (الضرورى) بين القيم الكبرى والفرعية. فلا يمكن مثلاً أن يكون الحق قبيحاً، أو الخير ظالماً. ولا يمكن للإخلاص أن يكون مرتبطاً بالكذب، كما لا يمكن للانتماء أن يكون مبتذلاً. وهكذا، ويمكن القول إجمالاً إن منظومة القيم هى التناغم القائم بين الأسس التى تحكم حياة وسلوك الإنسان (اللائق بصفة الإنسانية) والشخص الخليق بسمةٍ التحضُّر البشري. 
واهتراءُ منظومة القيم، هو التناقض الذى يقع فيه الناس أحياناً، بين ما هو نظرى وما هو سلوكي. كأن يدعون بلسانهم للمحبة أو يدَّعون أنهم خير الأمم، ثم تنضح قلوبهم بالمقت وكراهية المختلف، ويودون محو المخالف لهم. أو ما نراه فى حياتنا اليومية من اعتقاد البعض بأن هذه المسؤول فاسدُ الذمة ومرتشٍ، لكنه حنون ويعطف على الفقراء والمحتاجين! أو يعتقد العوام أن هذه الراقصة الخليعة عاهرة، لكنها طيبةُ القلب وخيِّرةٌ! إذ كيف تتوافق "الطيبة" و"الخيرية" وهما من القيم الإجتماعية المهمة، مع الرشوة والعُهر وهما نقيضا الاحترام؟ لا يمكن لمن كان غير محترمٍ فى كسب عيشه، أن يكون فى الوقت ذاته إنساناً طيّباً وخيِّراً. فهذا يناقض ذاك، والنقيضان لا يجتمعان حسبما يقول المنطق. 
وإعادة بناء منظومة القيم المصرية المهترئة، معناه مراجعة ما نحن فيه اليوم، وما كان منا طيلة السنوات العجاف الماضية التى تحول فيها المجتمع المصرى إلى حالةٍ مريعةٍ من الانهيار القيمي، بدعاوى عديدة ارتبطت بفترات الحكم المديدة التى توالت علينا على هذا الترتيب: تعميم التجربة الاشتراكية (الناصرية) مسايرة العصر والانفتاح (الساداتي) على العالم، الكذبة الشنعاء التى كان يروِّج لها نظام مبارك ويسميها الإصلاح. ولهذا الكلام تبيان: 
بعد حركة الضباط الأحرار (جداً) واستيلائهم على مقاليد الحكم السياسي، وبالتحديد بعد العام 1954. كان لابد لهم من إيجاد حلول عاجلة لمشكلات الفقر الداخلى والعزلة الخارجية، وكسب مشاعر الجمهور العريض من البسطاء، فكان الحل "الأسهل" أمام النظام الناصري، هو سلب أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء تحت شعار: تعميم التجربة الإشتراكية. وقد تطلَّب منهم ذلك، تشويه الزمن السابق على عام 1952 ورموزه، ابتداءً من الملك فاروق الذى تمَّ شجبه وفضحه هو وأجداده فى أعمال فنية وأدبية مثل رواية "فساد الأمكنة"، وفى أفلام طُغمة من المخرجين الذين هزأوا فى أفلامهم برجال العصر الملكى وطبقة البشوات الذين أشبعتهم سينما الستينيات تجريحاً. 
وفى الزمن الساداتي، شهدت مصر آثار "الانفتاح" أو بالأحرى (الاندياح) التام فى الأنشطة الاقتصادية التكميلية، وطفر فى المجتمع أثرياء جدد كان كثيرٌ منهم من حرامية البحر، وتجار العملة والشنطة، ومجرّفى الأراضى الزراعية لصنع الطوب. وقد انعكست أخلاقيات هؤلاء الأغنياء على المجتمع بأجمعه، وتجلَّت فى انتشار الفنون الهابطة وشيوع السبهللة والانتهازية، وهو ما أدى بدوره إلى مزيد من الخلخلة فى المنظومة القيمية السائدة. 
وخلال الثلاثين عاماً المباركية، وخصوصاً فى النصف الثانى منها، بلغت البدايات الانفتاحية أوج فجورها. نهباً لثروات البلاد، وصلفاً سلطوياً مقيتاً، وانهياراً لمفاهيم المعرفة والبحث العلمي، وسخريةً من المتعمّقين. إلى آخر ما عرفناه فى الزمن المباركى الأخير، الذى شهد اهتراءً تاماً فى المنظومة القيمية العامة، ولم تفلح الاتجاهات الدينية فى إرساء منظومة قيم بديلة، لأن هذه الاتجاهات كانت تخضع لأهواء أصحابها فى المقام الأول، ولأنها لم تهتم بالجوانب الفكرية والثقافية، وإنما وجهت جلَّ اهتمامها لاجتذاب الأتباع لاستعمالهم لاحقاً فى تحقيق الغرض السلطوي. 
وخلال هذه الأعوام الستين، ظلت منظومة القيم المصرية تتأرجح وتتساقط على النحو الذى عبَّر عنه كبار الفنانين فى أعمالهم، ونزف به الأدباءُ فى نصوصهم القصيصة والروائية، وصرخ به الشعراءُ فى قصائدهم النوّاحة على الحال العام. ناهيك عن الجهد الكبير الذى بذلته الطبقة الوسطى (المتآكلة) للحفاظ على التوازن الأخلاقى فى المجتمع، لضمان تنشئة أبنائهم فى واقعٍ يُمكن أن يُحتمل. غير أن ذلك، أو بالأحرى معظم ذلك، ذهب سُدى لأن معدّل الانهيار القيمى كان متسارعاً على نحوٍ يصعب اللحاق به، وتداركه بأنماط الضبط الاجتماعي. 
ولما اهتاجت البلاد فى السنوات الثلاث الأخيرة، انفجر كل ما كان مكبوتاً تحت السطح، وظهر الاهتراء القيمى واضحاً فى سلوك كثير من المصريين. فمنهم من أهمل عمله ودوره الاجتماعي، بدعوى أنه ناشط سياسي! ومنهم من تفرَّغ لانتقاد القاصى والداني، رفيع القدر والوضيع، الظاهر فى المشهد العام والمستتر، بدعوى أن الثورة لا بد لها أن تكتمل! كأن الثورة كانت سبيلاً للتفريج عن العُقد النفسية المزمنة. وهناك أمثلة لا حصر لها، تدل بشكل مباشر على درجة الانهيار القيمى الذى وصل إليه كثير من الناس فى مصر فى الفترة الأخيرة. علماً بأن انهيار القيم لا يعنى فقدان غالبية الناس لها، إذ يكفى أن تتخلّى نسبةٌ صغيرةٌ من المصريين عن المنظومة القيمية، كى يهترئ الحالُ العام. 
وسوف أتوقّف فى المقالات القادمة عند ظواهر محدَّدة ووقائع فعلية، يزخر بها واقعنا المصرى (حالياً) ليتأكَّد لنا بشكل لا يمكن الشك فيه، أن منظومة القيم المصرية قد اهترأت بفعل نسبةٍ لا بأس بها من أسافل الناس فى مصر، ممن طفت أفعالهم فوق السطح. وسنبدأ ذلك الأسبوع القادم، بالكلام عن "الحرية". فإلى لقاء.
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق