الأربعاء، 14 مايو 2014

عصرُ القُضاةِ (المصري)

المصدر: الأهرام اليومى

"لا يجوز قانونا التعليق على الأحكام القضائية". تلك هى العبارة التى قالها لى، بلطف، أحد الأحبة الذين يعملون فى سلك القضاء. تعقيباً على إعلان استيائي من السرعة التى تم بها إصدار الحكم بإحالة أوراق 529 إخوانياً إلى المفتى لأخذ رأيه فى إعدامهم (لا أعرف أن أيّ مفتي، أوقف فى أيّ مرة حكماً قضائياً بالإعدام) وأوضح محدثي المحذِّر، أن الذى صدر قبل أسبوعين ليس حكماً، وإنما هو قرار. قلتُ له مداعباً، ما معناه: ما دام قراراً وليس حكماً، فلا مشكلة فى إعلان الاستياء منه، لاسيّما أنه مفاجئٌ بسرعة إصداره، ومنذرٌ بمزيد من الالتهاب فى أنحاء البلاد. وقد سبق لى للأسباب ذاتها، إعلان الاستياء من الحكم المشدَّد الذى صدر أول مرة على الفتيات الغريرات (السكندريات) اللواتى كن يسمين أنفسهن، ويسميهن الإعلام "حركة 7 الصبح" وهى كما ترون تسمية ركيكة تنطلق من مفاهيم أكثر ركاكةً، وحمقاً. فلما صخبتْ فتيات السابعة صباحاً، فى السابعة صباحاً، بشارع سوريا بالإسكندرية وكسَّروا واجهات المحلات بسفالةٍ وجهالة، عُوقبن على أفعالهنَّ الجامحة بحكم قضائي قاسٍ أثار استيائي، لكنه ما لبث أن خُفِّف بعد أسبوعٍ بتقليل مدة الحبس، وبإيقاف التنفيذ.
قلتُ لمحدثي إن الحكم المتزن الذى صدر على الفتيات، مخفَّفاً، كان فيه خيرٌ كثير. لأنه جاء مراعياً للصالح العالم، ومتناسباً مع حالة الذهول الذهني الذى كان ولا يزال يلف عقول كثيرين من هؤلاء المصريين الذين كانوا يسمون أنفسهم "الإخوان المسلمين" وكنتُ أسميهم "العصابة". لكن الأهم، هو أننا لم نسمع من بعد صدور الحكم المخفَّف، قط، عن تلك الحركة الحمقاء المسماة (سبعة الصبح). 
وقياساً على ذلك، فإن الحكم أو القرار القضائي الممهّد لإعدام أكثر من خمسمائة شخص، ولو غيابياً، بهذه السرعة المفاجئة. فى بلدٍ كان ولا يزال يشكو من بطءِ التقاضي. هو أمرٌ من شأنه أن يزيد الطين بلةً فى وقتٍ نسعى فيه لتجفيف منابع الإرهاب والعنف الديني. وبالأحرى، تجفيف منابع الجهل والتخلف الذى يستعمله الساعون إلى السلطة، والمتحسّرون على ضياعها، بالسطوة الإرهابية العشوائية التى ترفع الشعارات الدينية على طريقة الحق الذى يُراد به باطل. ولاشك فى أن ترشُّح المشير للرئاسة (التى سينالها لا محالة) من شأنه أن يُلقى بظلال قوية، بل معتمة، على قلوب وعقول وأفعال الرافضين لذلك. وبالتالي، فليس من الصواب أن نسعى لتأجيج هذا "الإعتام" بمزيد من "القرارات" السريعة المفاجئة.
ولستُ من الذين يتجرأون على الهيئة القضائية أو يعترضون على أحكام القضاء، بل بالعكس أرانى شديد الاعتداد والتقدير للقضاء المصري. لأسبابٍ عامةٍ وخاصة. فمن الناحية (العامة) كان للقضاة فضلٌ فى القيام بالمعارضة الرشيدة الوقور أيام حكم مبارك، وفى استعادة التوازن "النسبي" بالبلاد عقب ثورة يناير التى احتدمت من دون وعيٍ كافٍ فصارت فورة، وفى الوقوف بصلابة أمام المحو الإخوانى لمصر خلال السنة البائسة التى قفز فيها السجين الحالي على كرسي الرئاسة. وكان للقضاة مشاركة عظيمة فى إزاحة هذا الكابوس الجاثم عن قلب مصر، وهو الأمر الذى تشارك فيه معظم المصريين من مثقفين ومحامين وقضاة وشرطيين، ثم انضم إليهم الجيش بقيادة الرئيس المرتقب لمصر. وبالتالي، فإن استيائي من سرعة وقسوة القرار (الحكم) بإحالة أوراق هذا العدد الكبير إلى المفتي، ليس استياءً من القضاء أو القضاة الذين أعتزُّ بمواقفهم العامة، وبما وجدته على أيديهم من نزاهةٍ ورصانة عند نظر القضايا الوهمية التى كانت تثار ضدي منذ مطلع هذه الألفية: الاعتداء على التراث الإسلامي! ازدراء الديانة المسيحية! ازدراء الأديان السماوية وإحداث فتنة بالبلاد وتشجيع التطرف!. وفى كل مرة، كانت الدوائر القضائية والنيابية تنصفني بشجاعةٍ، حتى إن قضية (الاعتداء على التراث) صدر الحكم فيها بعد عدة سنوات من التداول، بالبراءة. وجاء فى الحيثيات أنه: لا توجد ثمة قضية!.
من هنا أؤكّد أن حرصي على استعادة التوازن فى الحالة المصرية العامة، وعلى تنزيه القضاء والقضاة عن كل شائبة، هو ما دعاني للأمل فى أن يُعاد النظر (أو تُعاد الإجراءات) بحيث لا يأتى الحكم أو القرار القضائي صادماً هكذا، ومُنذراً بالمزيد من الصدام. ومع اعترافي بشناعة الجريمة التى ارتكبها المحكوم عليهم، وإقراري ببشاعة فعلهم الهمجي "الاعتداء على مركز الشرطة وقتل المأمور" وإدراكي لصخب المتصايحين اليوم مطالبين بقطع شأفة (الجماعة الإرهابية) من مصر، واقتناعي بضرورة الحسم المطلوب للقضاء على حالات الإجرام الجارية فى شوارعنا. مع علمي بذلك كله وإدراكي له، وإقراري به، فإنني أؤمن بأن الاندفاع لا يُعالج باندفاعٍ مضاد. فهذا ينذر بالاصطدام المريع، فى وقتٍ نحتاج فيه إصلاح ما تكسَّر طيلة الستين عاماً الضباطية الأحرارية، والثلاثين عاماً المباركية، والسنوات الثلاث الثورية. وأعتقد جازماً أن العنف لن يولِّد إلا عنفاً، وأن الحرب الضروس داخل المجتمع الواحد لا تجلب إلا الشؤم على الجيل الحالي والأجيال اللاحقة. لأن كل نقطة دمٍ تُسال على الأرض، بغير حق ولا هدى ولا صراط مستقيم، سوف تصير بذرةً لشجرة عجفاء من أشجار المقت والكراهية والحقد الدفين الذى أودى بجماعات إنسانية كثيرة، ويودى اليوم بإنسانية الناس فى العراق وسوريا وليبيا، واليمن التى انقسمت وسوف تلتهب أقسامها الستة بعد حين (اللهم خيِّب ظنى هذا، ولا تحقِّق توقعي).
كما لامني بعض الأحبّة والأصدقاء بسبب موقفي من "القرار القضائي" واعترضوا عليَّ بأننى كنت ممن اكتووا بنار الإخوان خلال حكمهم وسعوا لإسقاطهم، فكيف أتعاطف بعد ذلك معهم وأستاء من أحكام قضائية تصدر على أتباعهم. ولهؤلاء أقول: لقد عارضتُ (كهنة الإخوان) لأننى رأيت منهم ما يُوجب هذه المعارضة، لكنهم اليوم محبوسون. ومن يوم إزاحتهم، ثم حبسهم، أطالبُ بأن يُحاكموا بالقسط. وهذا ليس تعاطفاً معهم، وإنما هو حرصٌ على مستقبلنا الآتى وعلى صورتنا أمام العالمين. أما أتباع الإخوان، فهم اليوم أطيافٌ متعدِّدة، ولن يجدى معهم "السبيل الواحد" سواء كان أمنياً أو قضائياً أو إعلامياً، وإنما لا بد مع ذلك من استعمال السبل كلها، للتقليل من فداحة الأثر المريع لهؤلاء الموتورين المختلفة أطيافهم، المؤتلفة شعاراتهم الجوفاء. بالرفق إن أمكن، والحزم إن لزم.
أما القضاء والقضاة فإن كل ما أرجوه منهم، ولهم، هو أن يكلِّلوا سعيهم بالتأسيس لعصرٍ مصري جديد، يكون عصراً ذهبياً للقضاء الرشيد وللعدالة التى هى فوق العدل وللانتصار للقيم الإنسانية، التى هى الغايةُ والغرض من النصوص والإجراءات القانونية. هذا ما أتمناه حين أرنو إلى المستقبل، آملاً فى شروق عصر القضاة الذهبي فى سماء مصر. ولأن الشئ بالشئ يُذكر، ولأننا فى عام اليهوديات، فسوف تكون مقالة الأربعاء القادم بعنوان: عصرُ القضاةِ "اليهوديُّ".
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق