المصدر: الوطن
عندما بلغ به الإعياء مداه بعد ساعات أمضاها فى دهان حوائط الغرفة، خرج إلى الصالة وأحال وجهه فى جوانبها.. بحسب الاتفاق الذى جعل زواجه ممكناً، سيدفع نصف راتبه الشهرى ليكون له فى الشهور المقبلة نصف هذه الصالة، وكل غرفته، وحق استعمال الحمام المشترك. كان ذلك هو الحل الوحيد المتاح أمامه لإنقاذ خطبته بمحبوبته «حنان» وتحقق أمله فى الاقتران بها بعد أربعة أعوام عسرة أثقلتها المشاكل وأشكال الاشتهاء، لكن الحب انتصر.
استلقى على أحد الكرسيين كمن يريد أن يغفو، لكنه لن يستطيع الاستسلام لإغواء النعاس؛ فالسرير والكراسى الثلاثة «الأسيوطى» التى ستنوب عن الأنتريه وسفرة الطعام، ستصل بعد قليل. قال النجار إنه سيأتى بها بعد صلاة الظهر وقد اقتربت الآن صلاة المغرب، فلا بد أنه سيصل فى أى وقت. المهم أن يأتى قبل عودة شركائه فى الشقة، «أسامة» وزوجته «نجلاء» وابنهما منتفخ الوجه الذى بلغ من عمره عامين؛ فيستطيع النجار تركيب السرير قبل ازدحام المكان وغداً سيأتى المنجد.
كان «أسامة» زميلاً فى الدراسة وجاراً فى الحارة التى شهدت النشأة المزدحمة بالأحداث اليومية وبالوجوه المألوفة، ولما سمع «أسامة» بالمأزق الذى كان يعصف بحلم حياته بسبب الفشل فى الحصول على بيت للزوجية، اقترح عليه أن يشاركه هذه الشقة ذات الغرفتين، وزيَّن له الأمر بأنه يظل فى العمل معظم النهار وأول الليل، و«نجلاء» تبقى طيلة هذا الوقت مع ابنهما عند أمها الساكنة فى الشارع الكبير، فتكون الشقة الصغيرة خالية غير مستغلَّة. ولو استقلت كل أسرة بغرفة، وتشاركوا فى الصالة والحمام والمطبخ، وتغاضوا عن ازدحام المكان أيام الجمع والإجازات، وحفظوا عهود المودة، وقل مجىء الضيوف.. فلن تكون هناك أى مشكلة فى العيش معاً، بل كل المشكلات سوف تحل: يخرج «أسامة» من مأزقه المالى الدائم، ويتم «الزواج» الذى بدا مستحيلاً، وينجح العيش فى «تبات ونبات وخلفة الصبيان والبنات». فوافق على الفكرة من فوره، فانفرجت الأزمة بعد طول اشتداد، وكثرت الابتسامات.
«الحمد لله».. قال ذلك فى نفسه وهو مستلقٍ على الكرسى، وابتسم قلبه لقرب الموعد المنتظر وهام فى سماوات المنى وراح يناجى سراً حبيبته «حنان» التى حان قطاف ثمار حدائقها بعدما طال الانتظار: ما الذى أخرك يا «حنان» عن العودة من شارع الأزهر حتى الآن؟ لا بد أنك اشتريت قطعة القماش الخفيف التى ستكون ستارة لشباك غرفتنا، والتوابل، وأصابع الماكياج، ولا بد أنك الآن فى الطريق عائدة تحوطك البهجة. أنت يا «حنان» حبيبتى الوحيدة، ولا أحب أن أخالفك الرأى، ولكن كان الأجمل هو تأجيل نزولك المؤجل من أمس إلى الغد فنشترى هذه الحاجات معاً من هناك.. ولكن لا بأس، أتفهم إصرارك المستمر على الخروج وحدَك للشراء أو للبحث عن عمل يعين على صعوبات الحياة، أو لقضاء الأيام الأخيرة من عذريتك المفترضة مع الصويحبات اللواتى سوف تقل بعد زواجنا فرص اللقاء بهن والخروج معهن.
لا بأس يا «حنان»، لا بأس؛ فقد اقترب موعدنا وستكونين لى ابتداء من الخميس المقبل، وستكون لنا هذه الغرفة المغلق بابها علينا. أمى تسميها «المطرح» وتفخر بأننى استطعت الحصول عليها وانتصرت على الزمان العلقم. أمى تفهم، من دون أن تبوح، إلحاح الملحِّ فى دمى وبعدما بلغت التاسعة والثلاثين من دون زواج، وهى لا تريد لى الزواج فى سن الأربعين التى اقتربت منى بسرعة.. كيف مرت علىَّ الأعوام وسرقت عمرى؟!
ولا بأس يا «حنان» بأننا سنقضى بعض الأعوام المقبلة فى هذه الشقة المشتركة، ولسوف نتدبر أمورنا ونسعى جاهدين للانتقال إلى بيت مستقل بنا من بابه، يكون لنا كل غرفه وأنحائه. ومن يدرى؟ فربما يفرجها علينا الرزاق فنقدر على حجز شقة فى منزل جديد، مرتفعة طوابقه وله شرفة وفيه أكثر من شباك. لكن الآن لا ينبغى لنا أن نسرف فى هذه الأحلام المستحيلة، ونتأسى بأننا سوف نحقق يوماً ما ما نريد. انتبه من غيابه الهانئ عندما علا صوت النجَّار الزاعق عليه من مدخل البيت فهبَّ من استلقائه ونزل الدرج بفرحة الملهوف الملفوف بنشوة النوال المرتقب. ها هو السرير. عليه فى الليلات الساحرة ستكون الأوقات الحارة والحانية والحاضنة لـ«حنان»، وفوقه سوف تصير أطرافهما العارية أجنحة تعلق بهما فى سماوات بعيدة عن عالم الناس هذا، وتحته سيكون المخبوء من أغراضهما والمدسوس من البهجات الآتية. لم يستغرق النجار فى تركيب قوائم السرير وعوارضه إلا دقائق معدودات، وبتفاخرٍ أجوف أكد له أن هذا السرير نحيل القوائم لكنه قوى متين ويليق بالجدد من الأزواج، وابتسم.. وابتسم مجدداً وهو يتناول من «العريس» بقيَّة ثمن السرير، البخس، والكرسيين.. وابتسم ثالثاً وهو يفارقه عند باب الجُحر المسمى «شقة»، ويقول: كده خلاص يا بطل، هانت وبانت، المهم تاخد بالك من صحتك اليومين اللى جايين، علشان ترفع راسنا مع العروسة..
قاطعه وقطع كلامه الذى بدأ ينحرف عن سواء السبيل، بأن اصطنع الضحك وأظهر الابتهاج وهو يقول: «شكراً يا عم الحاج».. فلم يجد الحاج النجار بُداً من التعجيل بالانصراف، ليفرغ العريس لأعماله الباقية ولاستعداده ليومه الموعود الذى بان.
أغلق عليه الباب واستمتع بالهدوء الذى لن يدوم أكثر من ساعة سيأتى بعدها شريكه فى السكن وزوجته «نجلاء» وابنهما جاحظ العينين، المحدق دوماً بذهول غير معتاد من الأطفال.. واستمتع بالنظر إلى السرير العارى من الفرش واللحاف، المنعم بالوعود السحرية الغامضة.. واستمتع بالماء عند الحوض المكسور جانبه، وهو يغسل وجهه من النقاط الملونة التى تناثرت وهو يطلى حوائط الغرفة باللون المناسب للأزواج الجدد.. فى المرآة وجد وجهه قد ازداد نحولاً، ولا بد من مراعاة نصيحة النجار. صحيح أنه شديد النحول ونتوء الأطراف والطول لكنه قادر على القيام بكل ما يحلم به مع محبوبته الوحيدة، البعيدة، التى هى على وشك الوصول.. عاود النجوى: ما الذى أخرك يا «حنان»؟ أما كان الأصح أن تصلحى تليفونك المحمول حتى يمكننى الاطمئنان عليك واستعجالك فى العودة قبل وصول «أسامة» وأسرته، لتسنح لنا لحظات القطف المتسارعة التى قد نتصبَّر بها؟ لا بأس يا «حنان»، ربما سأُحرم منك اليوم مثلما حُرمت فى معظم الأيام، وتحرَّقت فى حرمانى حتى كدت أحترق وأدخل إلى الأربعين من دون دخول الدنيا، الدنيا هى الزوجة والزوج، معاً.
معاً سنكون يا «حنان» حتى آخر العمر، وأعتقد أنك سوف تتخلين بعد حينٍ يسيرٍ عن شرطك الذى يغيظ أمى. أعرف أنك قبلتِ العيش معى فى شقة مشتركة، بشرط عدم الإنجاب إلا إذا أكرمنا الله بالشقة المستقلة التى تحلمين بها، وأعرف أن إصرارَك لن يدوم؛ فقد عبرتِ من عمرك الثلاثين، ولن يكون لنا هذا الحلم قبل انقضاء سنوات طوال لا بد أن يغالبك خلالها الحنين إلى الإنجاب ويغلبك، فتحبلى منى هنا. وها هو «أسامة» و«نجلاء» لديهما طفل، ولا يجدون مشكلة فى العيش المشترك، ما دامت الظروف قد حكمت بذلك، وهو الذى اقترح الأمر، وهى تبدو موافقة وسعيدة بما سوف تناله كل شهر من مال حلال سأضحِّى به لأكون قربك، وأعرف يا «حنان» أن انعدام القبول، المتبادَل بينك وبين أمى، سوف يزول تدريجياً كلما اعتدتِ حياتكِ معى واعتادت أمى مع الجميع على وجودنا معاً. وعندما تتراخين فى اشتراطك عدم الإنجاب، هنا، وتقبلين هذا الواقع الذى قبلته قبلك لأننى أحبك، سيسعد بك الجميع مع أمى.. لن أخبرك أبداً بالاسم الذى جعلته لك أمى فيما بينى وبينها، «الغندورة»، وبهمسها فى أذنى كلما سنحت لها الفرصة، فتقول لى بلسان الحموات: «البنت دى شكلها كده مش ناوية على عمار».
أذان العشاء أشعل فى صدره نيران القلق؛ فقد توغل به الليل الساكن من دون أن تعود «حنان» بما ذهبت فى الصباح الباكر لإحضاره، فقدَّر أنها لن تتركه إلا ساعتين أو ثلاثاً. وقد مرت الآن ساعات النهار، وثلاث من ساعات الليل البطيئة، ولم تأتِ. ولم يأتِ «أسامة» وأسرته أيضاً ولا بد أنه تعمَّد العودة متأخراً ليترك لى الفرصة لإنهاء لوازم منزل الزوجية، والانفراد بالمحبوبة التى ستصير زوجة آخر الأسبوع. وبالطبع، شجعت «نجلاء» زوجتُه الفكرةَ، أو لعلها كانت صاحبتها والداعية إلى عودتهم متأخرين، لتبقى وقتاً أطول فى بيت أمها وحولها أهلها المطلة شرفتهم على الشارع الكبير. هى رفاهية نادرة أن نسكن فى شقة تطل على شارع، لا حارة، ولا بد أن لها هناك جارة تحب أن تحادثها سراً وتبوح لها بسر نظراتها.
نظرات «نجلاء» تخفى دائماً معظم المعانى النسائية المحظورة، وتفصح أحياناً عن بعضها. ولأنها زوجة زميلى وصديقى ومنقذى من هوان الخاطب العاجز عن الوصول إلى صفة «الزوج»، ولأننى مهذَّب أحرص على غضِّ بصرى إذا تحدثَت «نجلاء» إلىَّ، فأستأمن من النزق، فأرتاح، ربما كنت مخطئاً فى حكمى عليها، وظلمتها عندما ظننت فيها صباح أمس الظنون. نعم، هى لم تقصد أى شىء. عندما طرقت بابها الذى سيصير بابنا، فى تمام الساعة التاسعة صباحاً؛ إذ كان لا بد من بدء اليوم من أوله، لأستطيع إنجاز الأعمال التى استغرقت منى يوم أمس، بطول نهاره وكل ليله. كانت «حنان» قد وعدتنى بأنها ستخرج مبكراً لشراء ما سوف يحتاجه العش، أو بحسب تعبيرها «العشة»، وأكدت أنها ستوافينى ظهراً، لكنها لم تأتِ لا ظهراً ولا بعدَ ظهرٍ، فلما انتصف الليل أدركت أنها لم تخرج أصلاً بالأمس وأجَّلت خروجها إلى اليوم، وها هو اليوم قد مرَّ ولم أرَها. عندما طرقتُ الباب بالأمس، نظرت «نجلاء» فى عينى وهى تفتح لى الباب، وكانت نظرتها الأولى مزلزلة. لم أرَ نظرتها الثانية لأننى غضضت النظر واستمعت إليها وهى تخبرنى بكلام مرخم، منعم، أن «أسامة» خرج لعمله، وابنهما نائم، وهى تنتظرنى لأصلح ماسورة الحمام فتستطيع الاستحمام. أتممت المهمة بمهارة وسرعة، وتركت لها الحمام وأسرعت لإصلاح باب الغرفة التى ستكون لنا. عندى خبرة فى الأعمال المنزلية، ومهارة. لحظة خروجها من الحمام كانت كالحوريات اللواتى يخرجن أحياناً من البحر، وكانت قطرات الماء تسَّاقط من شعرها الأفعوانى الكثيف، على ثوبها الكاشف الشفيف. ابتسمت لى فتجاهلت ابتسامتها ودققت بقوةٍ المسمارَ الذى دققتُه من قبلُ، ثم أغلقت علىَّ باب الغرفة التى ستكون عش زوجيتى وانتظرت ساعة حتى سمعت باب الشقة يغلَق بصوت كاظم للغيظ، نظرت من ثقب باب الغرفة، فترة، فتأكدت من أن الشقة صارت خاوية منها، فخرجت أتلصص حتى تيقنت من أننى وحدى، فتنهدت مرتاحاً وأكملت ما كان ينتظرنى من أعمال الإصلاح.
هى لم تقصد أى شىء.
ظل حتى انتهى الليل، أو أوشك على الانتهاء، وحده لم يأتِ «أسامة» للمبيت ببيته، ولم تأتِ «نجلاء» من عند أمها، ولم يأتِ بالطبع ابنهما الصغير. و«حنان» لم تأتِ. مضت أيام عدة من دون أن أراها إلا فى خيالى، ومناجاتى الدائمة: ما الذى يمنعك عنى يا «حنان»، وكان الواجب عليك أن تكونى بقربى هذه الأيام؟! أتراك تختبرين حبى لك قبل الزواج، أم تراك ما زلتِ غاضبةً من آخر حوار جرى بيننا؟ لم يكن فى الحوار ما يغضبك، ولأننى أذكره كلمةً كلمة، فإننى متأكد من أنك على الود باقية؛ فقد قلتِ لى يومها إنك تريدين فى غرفتنا الوحيدة «نجفة» فقلت من فورى: إن النجف كالتحف، كماليات، وعلينا أولاً شراء الاحتياجات الأساسية.
- بس النجفة أساسية بالنسبة لى.
- بلاش مبالغة يا «حنان».
- بقول لك النجفة أساسية!
- على فكرة، هى اسمها «الثريا»..
- ثريا مين؟
- أيوه والله، ثريا يعنى نجفة.
- آه طيب.. أنا ماشية، أشوفك بعدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق