المصدر: الأهرام اليومى
هذه العبارة الشهيرة التى قالها المؤرِّخ اليونانى القديم هيرودوت ونُقلت عنه باعتبارها تعريفاً عاماً لمصر ومدحاً لها، فنظرنا إليها مع دوام تكرارها، على أنها نوعٌ من (الحقائق) ووضعناها فى الكتب المدرسية التى نحشو بها عقول الصغار، ثم اعتدنا على العبارة المكرّرة حتى صارت مع الوقت كأنها اليقين.
مصرُ هبةٌ ليس فى هذا القول إلا زعمٌ عريضٌ، لا دليل عليه. وإلا فلماذا تختصُّ مصر بهذا الوصف المراوغ، غير محدَّد الدلالة؟ ولماذا لا ننظر من هذه الزاوية إلى البلاد القديمة المجاورة، التى شهدت فجر الحضارة الإنسانية وأسهمت فى بزوغ شمسها. كالعراق مثلا أو سوريا؟ وهل وصف أحدٌ أحدَ هذين البلدين بأنه هبة أى منحة أو عطية، من الأرض أو السماء؟
وقد اشتهر بناءً على هذه العبارة العجيبة (الخالدة) أن بلادنا هبةٌ من النيل. مع أن هذا النهر الموصوف بالعظيم، يجرى فى أرضٍ تمتد عبر بلادٍ عديدة، ولم يفعل فيها مثلما فعل بمصر ولم يجعلها فى الزمن الأول مهداً أو موطناً للحضارة. ولو كان النيل هو الواهب لتوزَّعت الهبات على أقوامٍ آخرين، غير المصريين، كالأحباش والسودان والنوب. والمتحمّسون لمصر وأهلها، من أبنائها، عدَّل بعضهم العبارة المجازية المراوغة فجعلها مصر هبة المصريين انطلاقاً من أن المصريين هم المتميّزيون، أما النيل فهو يمرُّ منذ قديم الزمان على جماعاتٍ إنسانيةٍ متعدِّدة، ليس لها شأنٌ وشأوٌ كهذا الذى امتازت به مصر. لكن هؤلاء المتحمِّسين وسامعيهم، لم يتوقفوا أصلاً عند مسألة الهبة ذاتها، وكان الهمُّ الأول لهم هو اكتشاف وإعلان هذا الواهب، واستبدال اسمه، من دون أى شكٍّ فى أن مصر أصلاً هبة.
ولأن المسألة كلها مجازيةٌ وفضفاضةٌ، وتخضع للعاطفة والهوى وليس للعقل والمنطق. لم يسأل هؤلاء الزاعمون القائلون بأن (مصر هبة المصريين) أنفسهم: لماذا يتبَّدل حال هؤلاء الواهبين فى كل حين، وقد ينقلب أحياناً إلى النقيض. حتى إن المصريين فى (زمنٍ ما) صاروا على لسان أشهر شعراء العربية المتنبّى هم الأمة التى ضحكت من جهلها الأمم. والذى ينظر إلى حال مصر والمصريين فى زمن المتنبِّى لن يُنكر عليه إطلاقاً، إطلاقه هذه الصفة السلبية الشاتمة! فهذا البلد كان فى زمانه مسكناً لمساكين، ليس فيهم علماء مرموقون أو شعراء مفوَّهون أو رجال معدودون. وكان حاكم مصر آنذاك، هو عبدزنجىٌ خَصِىٌّ (مخصِىّ) مشقوق الشفتين، اسمه كافور لم يُعرف له أب أو جَدّ، ولذلك نُسب إلى مالكه: - الإخشيد!
أين إذن المصريون، الواهبون؟ ولماذا نُظر لمصر، أصلا، على أنها هبة؟
هذه المقالةُ هى الأولى من مجموعة مقالاتٍ تاليةٍ، عددها سبعة، ترصد العجائب المصرية على مستوى التصورات العامة والأحوال الحالية، أملاً فى إرساء وعينا العام ببلادنا (العظيمة) على أسس منطقيةٍ وعقلانيةٍ، قد تسهم فى تقليل هذه العجائبية والغرائبية التى يذخر بها واقعنا الحالى، وتراثنا الممتد فى الماضى البعيد. وبالتأكيد، لن تتوقف الغايةُ من تلك المقالات عند رصد المتناقضات والمفاهيم المضطربة، والمؤدية بدورها إلى مزيد اضطرابٍ على مستوى الوعى العام بالذات. وإنما تتعدى غايتنا ذلك، إلى هدفٍ أسمى وأجلّ هو السعى إلى إعادة بناء التصورات العامة، وبالتالى تُمهّد للنظر والعمل وفقاً للحقائق وليس الأوهام. وفى هذا السياق، وبصدد ما عرضنا له فى النصف الأول من المقالة، أقولُ وبالله التوفيق:
مصرُ ليست هبةً، أصلاً، للنيل أو للمصريين. وإنما هى بلدٌ امتدَّ تاريخه لآلاف السنين، وحفل بما لا حصر له من المفاخر والمخازى. والحضارةُ المصريةُ القديمةُ ليست موهوبةً، وإنما مصنوعة بجهد كثير من الملوك الراشدين والأتباع الواعين والمبدعين، فى لحظةٍ تاريخيةٍ خاصةٍ لم تشهد فيها بلادنا حروباً طاحنة أو غاراتٍ همجيةً من الجيران أو جدباً يحرق الأرض ومَنْ عليها. وفى تلك الهدأة الهانئة التى امتدت لمئات السنين فى مصر القديمة، حكمتْ البلاد (الموحدة) تلك الأسراتُ الأولى التى أينعت فى زمانها بذورُ الحضارة المبكرة. وبالتالى، فلا معنى للكلام عن هبة ثم البحث عن الواهب: أهو النيلُ، أم المصريون؟.
ومفهوم الهبة يرتبط أصله بالمعتقد الدينى، ويعود جذوره إلى اليونان القديمة، حيث كانت الآلهةُ تتخذ صفةَ الوهب أى العطاء غير المشروط، وغير المحدَّد، إلا بحسب إرادة الإله الواهب. فالمبدعون مثلاً، بحسب المعتقد اليونانى القديم، تفيض عليهم الإبداعاتُ من ربات الفنون بلا شرطٍ أو نظامٍ محدَّد، على النحو الذى يقترب من المفهوم العربى القديم المعبَّر عنه بقولهم شيطان الشِّعر الذى كان فى اعتقادهم القديم، يمنح الشعراء مطالع القصائد البديعة.
وفى فترةٍ لاحقةٍ تَلَتْ الزمانين المصرى واليونانى، القديمين، سوف تُعلى المسيحيةُ وهى تُعالج عَنَتَ اليهودية وجفافها، هذه الفكرة اليونانية. فكرةَ الإله الواهب. وطبقاً للمعتقدات المسيحية العامة، فإن الله (الآب) وهب ذاته من خلال المسيح (الابن) لخلاص الإنسان من الخطيئة الأولى. فنزل إلى الأرض، وتجسَّد، وتألَّم، وصُلب، فوهب بذلك الخلاص للإنسان. ومن هنا ظهرت فى المسيحية، بقوة، فكرة الهبة الإلهية لبنى البشر. واشتقوا من هذا المفهوم، ومن لفظه، الأسماء والألقاب المشهورة التى كثيرا تكرّرت. ولذلك، ليس من الغريب أن نجد للرجلينِ الفاضلينِ اللذين يترأسان الكنيستينِ المصريتين اليوم، اسماً واحداً ذا أصلٍ يونانى (وإن اختلف النطق ورسم الاسم) وهما: البابا تواضروس بطريرك الكنيسة المصرية الأرثوذكسية المنوفستية، المعروفة حالياً عند العوام بكنيسة الأقباط. والبابا ثيؤدوروس بطريرك الكنيسة المصرية الأرثوذكسية الخلقيدونية، المعروفة عند العوام اليوم بكنيسة الروم الأرثوذكس. وهما اسمٌ واحدٌ يعنى باليونانية: هبة (عطية، منحة) الله.
من يدرى. ربما نستفيق يوماً من تلك التصورات العجائبية، ونعرف أن البلاد لا تُوهب من نهرٍ أو أرضٍ أو سماء، وإنما يصنع الناسُ فيها تاريخهم وحاضرهم بحسب أحكام اللحظة التاريخية وبحسب إحكام الجهد المبذول. وربما يستفيق الآباءُ والأمهات، فيكفُّون عن تسمية إحدى بناتهم هبة الله وكأن بقية بناتهم، وبنات الآخرين، لسنَ هباتٍ من الله. مع أنه تعالى هو الذى خلقكم، وخلق ما تعملون، وما تُنجبون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق