الصفحات

الأربعاء، 14 مايو 2014

عجائب مصرية (2)


المصدر: الأهرام اليومى

الأسبوع الماضى، فى المقالة الأولى من هذه المقالات السبع، التى ترصد التصورات والأفكار العجائبية التى يذخر بها العقلُ الجمعى المصرى 
(والعربى) أشرتُ إلى ضرورة الكفِّ عن اعتناق الفكرة الفضفاضة القائلة بأن مصر "هبة النيل" أو "هبة المصريين" لأن البلاد ليست هبات من الأرض، ولا من السماء. ولا عبرة فى هذا السياق، بالمعتقد اليهودى المؤسِّس لدولة "إسرائيل" على قاعدة الوعد الإلهى الموهوم، ووَهب الأرض بعهدٍ غير مُبرّر.
وقد انزعج بعض المعلّقين على المقالة السابقة، وقالوا إن هذا الاعتقاد 
"الوهمى" بأن مصر "هبة" هو واقع الأمر اعتقادٌ نافعٌ، ولا يصح نقضه، لأنه يدعو أهل مصر للاهتمام بنهر النيل. وهذا القول عندى عجيب، أو 
"هذا لعمرى فى القياس بديع" بحسب عبارة الإمام الشافعى فى أبيات شعرية له (بديع هنا تعنى عجيب وغير مقبول) لأن التعليق المنزعج، وهذا النوع من التفكير عموما، لا يخضع للمنطق ولا يصمد أمام أى تحليل. إذ كيف لنا أن نبرِّر وهماً كهذا، بأنه دعوةٌ لأبناء مصر كى يهتموا بنهرهم! لو صحَّ هذا لكان أهل البرازيل قدا أشاعوا إن بلادهم هبة الأمازون، ولكان العراقيون قد زعموا بأن العراق هبة الرافدين (دجلة والفرات). وهكذا. والأعجب فى هذا الموقف المنزعج، أنه لن يجيب عن سؤالٍ بسيط: لو كانت مصر هبة النيل، بحسب هذا الوهم القديم الداعى للاهتمام بالنيل، فلماذا ظل المصريون يعتقدون فى ذلك ويرددونه ليل نهار، وهم فى الوقت نفسه يلوّثون النهر الذى وهبهم بلادهم؟ والأهم من ذلك، السؤال الآخر: 
ألم يؤثر هذا الوهم سلباً على المصريين، لأنه جعلهم يعيشون دوماً على الشريط النهرى "الواهب" ويتَكَدَّسون فيه ثم يشتكون من زحامه، بينما يهملون بقية أنحاء بلادهم وينفرون منها، فيتركونها صحراوات جرداء لا حياة فيها؟. وبالطبع، فإن هذين السؤالين، كلاهما "استنكارى" لا ننتظر عنه إجابة.
وفى معرض الردّ على القائلين، وبالأحرى الزاعمون، أن مصر هبة المصريين. وردت بالمقالة إشارةٌ إلى قول "المتنبِّى" وهو يسخر من المصريين فى زمانه "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" وقد استغرب بعضُ القرّاء أن يكون المقصود بهذا القول، أهل مصر. إذ ظنوا أن قوله "الأمة" يدل على المسلمين عموماً، وتوهّموا أن المتنبّى لم يسبّ المصريين تحديداً! وهو ما يدلُّ بشكل واضح على أن هؤلاء المتوهمين لم يقرأوا القصيدة كاملة، ولم يعرفوا ديوان المتنبى وقصائده المسماة (الكافوريات) التى سبَّ فيها الشاعرُ، حاكم مصر آنذاك "كافور الإخشيدى" وشتم أهل مصر بما لا حصر له من تعبيرات كان أشهرها: نامت نواطير مصر عن ثعالبها (يعنى: لا حراس مصريين يراقبون السُّراق الناهبين) وقد بشمن وما تفنى العناقيدُ وبالمناسبة، ربما يجب علينا أن نستعيد فى وعينا المعاصر كلام المتنبِّى، ونتأمله فى ضوء ما يجرى معنا اليوم.
ومن العجائب المصرية، الأخرى، ما سوف نلمسه برفقٍ فى مقالة اليوم 
(عسانا لا نُزعج بذلك أحداً) فنقترب من أحد طبائع المصريين المعاصرين، أو الغالبية منهم، أعنى ذلك الميل العام للحلول السهلة، والقعود بقدر المستطاع عن بذل المجهود. ولا شك فى أن النفس الإنسانية، كما قال حجةُ الإسلام الإمامُ الغزالى، تميل بطبعها إلى الكسل والاسترخاء (أو بحسب تعبيره: الدِّعَة) وتنفر من ركوب الأخطار والمشقات، وتملُّ العمل الدائم الدءوب. لكننا هنا لا نتحدث عن طبيعة النفس بالمعنى السيكولوجى، وإنما يقع حديثنا على الظواهر الإجتماعية العامة التى تنتشر بين الجماعة المصرية (وبالأحرى: الجماعات) تأسيساً على قواعد عقائدية أو وقائع جغرافية أو موروثٍ ممتد لآلاف السنين، كان خلالها المصرى يرى الخير يأتيه سنوياً فى كل صيفٍ مع الفيضان، فيضع البذور وينتظر حتى تنمو وتنضج بأقل مجهود. وظلّ المصرىُّ فى أوقات فراغه الطويلة، يتعبد شاكراً "آمون" ثم "الرب" يسوع لقرابة الألفى عام، ثم "الله تعالى" خلال الألف سنةٍ الماضية.
الطبيعة المريحة، والمعبود الأعلى الداعم، وموروث الدعة، وعبور المحن الطاحنة ودواهى الشدائد. وقائعُ ومفاهيمُ عامةٌ، ظلت تجتمعُ فى عقول المصريين وتعتملُ فى صدورهم يوماً بعد يوم وعاماً تلو العام، حتى صار عموم المصريين ذوى طبيعة خاصة تثير العجب من وفرة ثقتها بأن الأزمات مهما اشتدت، فسوف تنفرج لا محالة. وقد دُعم هذا الاعتقاد بما لا حصر له من تعبيرات وأمثال شعبية، تعكس حالة التخلِّى عن الفعل انتظاراً لحلولٍ غير منظورة، فمن ذلك: اصبْر على جار السوء، سيرحل أو تصيبه مصيبة. العبد فى التفكير (وليس الفعل) والرب فى التدبير (إيجاد الحل). ربك يفرجها من عنده. وغير ذلك كثيرٌ من الأقوال المأثورة التى تنطبع فى نفوس الناس منذ الصغر، ثم تصير مع التكرار اعتقاداتٍ راسخة ومواقف يقينيةٍ تُساق من دون التدقيق فى مصداقيتها.
ولهذا الأمر "العجيب" الذى يبدو من ظاهره طريفاً ومفيداً لسكب السلوان عند الاحتياج إليه، آثارٌ أخرى مدمّرة. فقد أدى مراراً إلى خروج مصر والمصريين من التاريخ لمئات السنين، مثلما هو الحال فى الزمن المصرى المسمى (الفوضى) الذى كان بين الدولتين الوسطى والحديثة، وامتد لقرابة خمسمائة عام. وهناك الخمسمائة عام الأخرى، المسماة بالعصر المسيحى المصرى. وكذلك فترة الخمود الحضارى التى امتدت من أواخر العصر المملوكى إلى بدايات العصر العثمانى. وخلال هذه الفترات الطوال (ولا عبرة هنا بالطنطنة الفارعة الزاعمة بأن مصر: سبعة آلاف سنة من الحضارة) كانت الثقافة المصرية العامة، إتكاليةٌ، وكان الحالُ العام مُزرياً. ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن معظم العجائب المصرية، تتعلق بالحال الحالى مثلما تتجلى فى الماضى البعيد. فحيثما توافَّرت المقدمات ذاتها، أعطتْ النتيجة نفسها. والمثال على امتداد هذا الأمر فينا، ما رأيناه خلال الأعوام الثلاثة الماضية حيث انتفض الناسُ ضد دولة "مبارك" أياماً، وبعدها بأسابيع انتظروا وصول الأموال المنهوبة (قيل أيامها إن مبارك، وحده، هرَّب مائة وسبعة وسبعين مليون دولار، وسوف تعود لنا قريباً).
وطيلة الأعوام الثلاثة الماضية، رأينا من المصريين ما هو أعجب من انتظار الحل السحرى للمشكلات الاقتصادية باستعادة الأموال المنهوبة، وأعنى بذلك ما فعله معظم المصريين المشهورين بالثورية (أو بالأحرى الذين أحبوا أن يتّصفوا بهده الصفة) إذ ترك هؤلاء أعمالهم الأصلية وصاروا فقط ثواراً، وضيوفاً فى القنوات التلفزيونية، وأصحاب نظريات تفسّر سفاسف الأمور! فما عاد المهندس يهندس، لأنه ثائر، وما عاد الطبيب يعالج لأنه ثائر، وكفَّ الكاتبُ عن الكتابة لأنه ثائر! وفجأة، صار فينا فريقٌ من المصريين يتكلمون ليل نهار، ولا يفعلون شيئاً، كأنهم كانوا ينتظرون انفراج الأزمة من السماء، من دون بذلهم الجهد فى العمل. وعندما كتبتُ عقب ثورة يناير، بأسابيع، مقالاً بعنوان (إحياء الأمل بخُطط العمل) لم يعلِّق على كلامى أحد، ولا أعتقد أن أحداً قد اهتم به، أو أراد أن يهتمّ. والأدهى من ذلك، أنه صارت لدينا بعد يناير 2011 وظيفة معترف بها إعلامياً كصفةٍ لطيفة لبعض الأشخاص، هى صفة "ناشط سياسى" وما لبثت كلمة "سياسى" أن سقطت من التعريف العجيب، لتصير وظيفة هذا الشخص أو ذاك فى المجتمع: ناشط. ختاماً، وكيلا نخوض فى تلك النقائع السَّبِخَة، نقول إجمالاً: إن النشاط (الحقيقى) لكل شخصٍ فى ميدانه الأصلى، وإحياء الأمل بخطط العمل، هو المفتاحُ الوحيد للفرج. وليس حسبما ندّعى، ونقول، دوماً: الصبر مفتاح الفرج.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق